في زمنٍ لم تعد فيه الحقيقة بريئة، ولا الكلمة محايدة، ولا الصمت خيارا أخلاقيا، تظهر من بين الركام أصواتٌ لا تُشبه الضجيج، ولا تستجدي الشفقة، بل تفرض حضورها كحقيقة صافية لا يمكن تجاوزها. في زمنٍ تُقصف فيه البيوت، وتُهدّم الذاكرة، وتُستهدف الرواية الفلسطينية كما تُستهدف الأجساد، تخرج آلاء العقاد من بين الخيام، لا كضحية، بل كمعنى. لا كرقمٍ في نشرات الأخبار، بل كقلمٍ يُربك السردية السائدة، ويُعيد تعريف الصمود الفلسطيني من زاوية إنسانية شديدة الخصوصية والعمق.
آلاء العقاد ليست مجرد طفلة فلسطينية تعيش النزوح والحرب، وليست فقط فتاة تعاني من إعاقة حركية فرضتها عليها قسوة الظروف، بل هي مشروع وعي مبكر، وتجسيد حيّ لفكرة أن المقاومة لا تُختزل في البندقية وحدها، بل تتجلى ـ وربما بأثر أبقى ـ في الكلمة الصادقة، في السرد، في توثيق الألم دون تجميل، وفي تحويل الوجع الشخصي إلى ذاكرة جماعية لا تُمحى.. هي الطفلة التي قرّرت أن تواجه العجز الجسدي بعنف الفكرة، وأن تُحوّل بطء الخطوة إلى تسارع في الوعي، وأن تجعل من الكتابة فعل بقاء، لا ترفا ثقافيا.
كتابها «كتابات آلاء العقاد خلال ستة شهور ـ من يوميات آلاء الفلسطينية» لا يُمكن قراءته كدفتر يوميات عادي، ولا كمجرد بوح ذاتي في زمن الحرب، بل يجب التعامل معه بوصفه وثيقة إنسانية وأدبية وسياسية في آنٍ واحد.. هو نصّ يُقاوم المحو، يُفكك خطاب القوة، ويعيد الاعتبار للإنسان الفرد في خضم الإبادة الجماعية المعنوية والمادية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. في هذه الكتابات، لا تتحدث آلاء عن نفسها فقط، بل عن جيلٍ كامل يعيش فوق الرماد، ويحاول أن يصنع من الحطام معنى للحياة.
منذ الصفحات الأولى، تُعلن آلاء موقفها الوجودي بوضوح: الحقيقة في خطر.. ليست الحرب، في نظرها، صواريخ وطائرات فقط، بل حرب روايات، حرب صور، حرب صمت. في مقالتها اللافتة «رصاصة على الحقيقة»، تكشف وعيا سياسيا وإعلاميا يفوق عمرها بكثير.. هي تدرك أن استهداف الصحافيين ليس تفصيلا عابرا، وأن اغتيال الكاميرا هو محاولة لاغتيال الذاكرة، وأن قنص الكلمة لا يقل فتكا عن قنص الجسد.. تقول بوعيٍ موجع: «الرصاصة لم تُصبهم وحدهم.. بل أصابت قلوبنا جميعا».. هنا، تتجاوز آلاء موقع الشاهدة إلى موقع المُحلِّلة، وتُمسك بخيط خطير: الحقيقة تُحارب أولا بالكذب، ثم تُدفن بالصمت.
هذا الإدراك العميق لوظيفة الإعلام والسرد، يجعل من كتابات آلاء فعل مقاومة معرفية. هي لا تكتب لتبكي، ولا لتُثير التعاطف فقط، بل لتقول للعالم إن الرواية الفلسطينية تُكتب حتى عندما تُكسر الكاميرات، وحتى عندما تُغتال الأصوات. جملتها المفصلية: «لا تموت الحقيقة… حتى لو اغتيلت الكاميرا» ليست شعارا أدبيا، بل بيان وجود. إنها إعلان تحدٍّ في وجه آلة التضليل، وإصرار على أن الحبر يمكن أن يعبر الحدود التي لا تعبرها الصور.
وفي نصها «يوميات آلاء… خطواتي فوق الرماد»، تنتقل من مستوى الوعي الجمعي إلى التفاصيل الدقيقة للحياة تحت القصف والنزوح. هنا، تتجلّى شاعرية آلاء في أقسى صورها. لا تلجأ إلى الوصف الدموي، ولا إلى الصراخ، بل تكتب بهدوء موجع يجعل القارئ شريكا في التجربة. تستيقظ «على صوت الطائرات، لا العصافير»، وتدخل عالم الخيمة التي تصفها بصدق قاسٍ: «لا جدران، لا دفء، فقط قماش رقيق يحاول أن يحجب البرد والخوف». الخيمة، في نص آلاء، ليست مكانا، بل حالة وجودية، هشاشة مكثفة، وامتحان يومي للكرامة الإنسانية.
ومع ذلك، لا تستسلم آلاء لهذا المشهد.. وسط الرماد، تُصرّ على الحياة عبر طقوس صغيرة لكنها بالغة الدلالة: إعداد القهوة للأم، ترتيب الخيمة، البحث عن ابتسامة، محاولة الحفاظ على نظام يومي وسط الفوضى.. هذه التفاصيل ليست هامشية؛ إنها مقاومة صامتة. فحين تُصرّ إنسانة نازحة، تعاني من إعاقة حركية، على ترتيب خيمتها، فهي تقول للعالم إن الاحتلال لا يستطيع أن ينتصر على المعنى، حتى لو سيطر على المكان.
هنا تحديدا، يتجلّى البعد الأكثر عمقا في تجربة آلاء العقاد: تقاطع الإعاقة مع الصمود والكتابة.. الإعاقة الحركية التي غالبا ما يُنظر إليها بوصفها عائقا مضاعفا في ظروف الحرب، تتحول في نص آلاء إلى عدسة أخلاقية حادة.. هي لا تُخفي صعوبة الحركة، ولا تُجمّل الألم، لكنها ترفض أن تكون الإعاقة ذريعة للغياب. تقول بوضوح: «أرتب الخيمة بيدي رغم إعاقتي الحركية». هذه الجملة وحدها تختصر فلسفة كاملة في مقاومة العجز.
آلاء تسير بخطوات بطيئة نحو الورشات الثقافية في المخيم، وتصف هذا السير لا كتنقل جسدي فقط، بل كرحلة تحرر داخلي. كل خطوة بطيئة هي انتصار على اليأس، وكل ورشة كتابة هي مساحة لاستعادة الذات.
الكتابة، بالنسبة لها، ليست هواية ولا ترفا، بل وسيلة للبقاء، وطريقة لمقاومة الشعور بالخذلان والعجز. هي تعي أن جسدها قد يكون محدود الحركة، لكن صوتها لا حدود له، وأن القلم قادر على تعويض ما عجزت عنه الساقان.
في هذا السياق، تتحوّل آلاء إلى رمز إنساني يتجاوز الجغرافيا الفلسطينية.. قصتها تطرح سؤالا أخلاقيا عالميا: ماذا يعني أن تكون إنسانا في زمنٍ يُراد فيه للإنسان أن يكون مجرد رقم؟ كيف يمكن للإعاقة، بدل أن تكون وصمة، أن تتحول إلى مصدر قوة أخلاقية وسردية؟ آلاء تُجيب بالفعل لا بالتنظير. هي تُثبت أن أعمق أشكال الصمود تنبع من أعمق أشكال الهشاشة، وأن القوة الحقيقية ليست في إنكار الألم، بل في تحويله إلى معنى.
إن القيمة الحقيقية لكتابات آلاء العقاد تكمن في أنها لا تفصل بين الذاتي والجماعي. ألمها الشخصي لا ينفصل عن الألم الفلسطيني العام، وتجربتها الفردية تتحول بسلاسة إلى مرآة لواقع شعب كامل. هي لا تكتب عن الحرب بوصفها حدثا خارجيا، بل كحالة تسكن الجسد واللغة والذاكرة. وفي الوقت ذاته، لا تقع في فخ الخطاب الدعائي أو الشعاراتي، بل تحافظ على صدق إنساني يجعل نصها قابلا للتصديق، وقادرا على اختراق القارئ أينما كان.
في خاتمة هذه التجربة، لا تُقدّم آلاء خطاب انتصار ساذج، ولا وعدا زائفا بالخلاص القريب. هي واقعية حدّ القسوة، لكنها متشبثة بالأمل حدّ التحدي. عبارتها المفصلية: «ما دام فيّ نبض… سأحيا» ليست مجرد تعبير عن إرادة شخصية، بل إعلان فلسفي في وجه ثقافة الموت. إنها تقول إن الحياة، حتى في أدنى شروطها، تستحق أن تُعاش، وأن تُكتب، وأن تُدافع عنها بالكلمة.
آلاء العقاد، بهذا المعنى، ليست مجرد شاهدة على العصر، بل فاعلة فيه. هي تُسهم في تشكيل الوعي، في حماية الرواية الفلسطينية من التزييف، وفي إعادة الاعتبار للكلمة كفعل مقاومة. قصتها تُجبرنا على إعادة التفكير في مفهوم النجاح، والقوة، والبطولة. فهي قصة نجاح تمشي ببطء.. نعم، لكنها تمشي بثبات، وباتجاه المعنى.
إن مسؤوليتنا تجاه تجربة آلاء لا تتوقف عند الإعجاب أو التعاطف، بل تبدأ من نشر صوتها، وحماية سرديتها، والاعتراف بأن الكتابة تحت القصف ليست فعلا أدبيا فقط، بل واجبا أخلاقيا. ففي عالمٍ يُحاول أن يُسكت الحقيقة، تصبح كل كلمة صادقة انتصارا، وكل نص يُكتب من قلب الألم خطوة إضافية نحو العدالة.
آلاء العقاد كتبت لتبقى.. وبهذا، انتصرت.







