قصّـة إشعاع حضاري ومقاومة شعبيـة تتــوّج بالارتقـــاء الإداري
شهد الغرب الجزائري ميلاد ولاية جديدة تحمل اسم «العريشة»، وهي خطوة حاسمة تجسّد الرؤية الاستراتيجية للدولة الهادفة إلى تحقيق التوازن الإقليمي والعدالة التنموية، هذه الترقية التي حوّلت البلدية والمقاطعة الإدارية السابقة – بقرار من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون – إلى ولاية كاملة الصلاحيات، فأعادت إحياء آمال سكان المنطقة ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي والمؤهلات الطبيعية والاقتصادية الواعدة.
تقع العريشة في أقصى جنوب ولاية تلمسان السابقة، وتعتبر نقطة تقاطع حيوية بين ولايات تلمسان (شمالا)، وسيدي بلعباس (شرقا)، والنعامة (جنوبا)، كما تقع على مقربة 20 كيلومترا من الحدود الغربية للبلاد. هذه الأهمية الجغرافية التي كانت تحديا في السابق لبعدها عن مقر الولاية الأم، أصبحت اليوم ميزة محورية تحوّل العريشة إلى «بوّابة الصّحراء»، ما يفتح آفاقا واسعة للتبادل التجاري والتنمية الاقتصادية.
وتضم الولاية الجديدة أربع بلديات هي: العريشة، القور، سيدي الجيلالي والبويهى، وتتميز بمقومات طبيعية وبيئية، حيث تستقر العريشة تحت كنف جبل مكايدو، ويكتسي محيطها حلة من أشجار الصنوبر، بالإضافة إلى وجود مناطق للرعي تناسب نمط عيش البدو الرحل، ما يزيد من أهميتها في قطاع الفلاحة والرعي.
تعزيز الاستثمار
جاء قرار ترقية العريشة ضمن حزمة من التعديلات الإدارية لإنشاء ولايات جديدة، بهدف تقريب الإدارة من المواطن، حيث ستتمكّن السلطات المحلية الجديدة من الاضطلاع بمهامها وصلاحياتها الكاملة، ما يسرّع من وتيرة معالجة انشغالات السكان وتحسين مستوى الخدمات العمومية، وتحفيز التنمية المحلية، من خلال تهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات المنتجة للثروة وخلق مناصب عمل للشباب، بالإشارة إلى أنّ المنطقة الصناعية في العريشة قد شهدت مؤخرا أشغال تهيئة واسعة استعدادا لهذا الدور، فضلا عن تحقيق العدالة الإقليمية، لضمان توزيع عادل للمشاريع التنموية على كافة أرجاء الوطن، واعتبارا للمقومات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية للمنطقة التي تؤهّلها للارتقاء الإداري.
حلم تحقّق وفرحة عارمة
أثارت ترقية بلدية العريشة إلى ولاية كاملة الصلاحيات موجة من الفرح والاعتزاز في أوساط المواطنين، الذين اعتبروا القرار التزاما حقيقيا من الدولة نحو التنمية الشاملة، وقد عبّر السكان عن تثمينهم للقرار الذي وصفوه بـ «الحكيم»، مؤكّدين أن هذه الخطوة تعكس «الحرص الدائم والدؤوب للدولة الجزائرية وعلى رأسها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في خلق تنمية شاملة وعادلة، وتحقيق اقتصاد فعّال في شتى الميادين».
أبرز التّطلّعـات
وفي خضم الاحتفاء بترقية العريشة إلى ولاية كاملة الصّلاحيات، عبّر المواطنون عن تطلّعاتهم وأحلامهم التي تلامس عنان السّماء، حيث طغت الانشغالات المتعلقة بتوفير مناصب الشغل على انطباعات السكان، الذين أجمعوا أن الترقية ستنعكس إيجابا على المنطقة، خصوصا في توفير مناصب شغل لفئة الشباب، مستفيدة من الخصائص الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية التي تزخر بها المنطقة.
وأكّد المواطنون الذين تحدثنا إليهم، أنّ القرار سينعكس بالايجاب على المنطقة والساكنة ككل من حيث التنمية والاقتصاد، معبرين عن طموحهم بأن تصبح ولايتهم الجديدة «أحسن ولاية»، وأن تكون العريشة «في مصاف الولايات الكبرى» في البلاد.
وتنتظر ولاية العريشة الجديدة بموقعها وإمكاناتها وطموح سكانها، مرحلة بناء وتشييد لتحويل آمال التنمية إلى واقع ملموس، في وقت دعت فيه السلطات إلى ضرورة تضافر الجهود والتنسيق بين مختلف القطاعات لضمان انطلاقة فعالة للتنمية المحلية، داعية المنتخبين والإطارات والمجتمع المدني إلى مرافقة الوالي المنتدب بروح التعاون والتكامل، إثباتا لإرادة الدولة على تطوير هذه البقعة من الجنوب الغربي الجزائري، لتصبح العريشة نموذجا للتنمية المتوازنة والإدارة الرشيدة.
تاريخ عريق وتقاليد راسخة
تتمتّع منطقة العريشة الواقعة في الجنوب الغربي لولاية تلمسان تاريخيا، بعمق تاريخي وجغرافي جعلها محطة هامة في مسارات الحضارات والهجرات التي مرت بالغرب الجزائري، فتاريخ هذه المنطقة نسيج حي يحدّد هويّتها الثقافية وتقاليدها الراسخة، حيث ترتبط منطقة العريشة، والمناطق المجاورة لها كـ «القور» و»سيدي الجيلالي»، ارتباطا وثيقا بتاريخ تلمسان الكبرى التي كانت عاصمة لبني زيان، فموقعها على طريق القوافل جعلها نقطة عبور وتبادل، خاصة مع امتدادها نحو الجنوب باتجاه مناطق الرعي والتجارة الصحراوية.
تاريخيا، كانت المنطقة مركزا حيويا لقبائل البدو الرحل وشبه الرحل، حيث كانت تشكّل مجالا واسعا للرعي والانتقال الموسمي، ما أثّر بعمق على طابعها الاجتماعي والاقتصادي، وجعلها حاضنة لثقافة «المهري» (تربية الإبل) والضأن، أما خلال فترة الاستعمار الفرنسي، لعبت العريشة دورا في المقاومة الشعبية نظرا لطبيعتها الجبلية التي وفرت ملاذا للمجاهدين.
وشهدت المنطقة عدة أحداث بطولية تعكس تشبّث أهلها بالأرض والهويّة الوطنية، وساهمت في ثورة التحرير المجيدة، كما تشتهر ولاية العريشة بانتشار الزوايا والمراكز الدينية التي كانت منارات للعلم وحفظ القرآن الكريم، كما هي الحال في منطقة سيدي الجيلالي، ممّا يعكس البعد الروحي والثقافي لأهلها.
تقاليـد وعــــادات
تزخر العريشة بموروث ثقافي غني، وهو مزيج من التقاليد الأمازيغية والعربية الأصيلة، يتجلى بوضوح في الحياة اليومية لسكانها، حيث يتميز اللباس التقليدي بالبساطة والعملية، مع الاحتفاظ بلمسات جمالية، كما لا زالت العديد من النساء يفضلن ارتداء «الملحفة» أو «الحايك» في المناسبات، وهي ألبسة تعكس الاحتشام والأصالة، في حين يرتدي الرجال خاصة كبار السن «القندورة» و»البرنوس» الصوفي، خاصة في فصل الشتاء البارد، كرمز للدفء والوقار، أما الضيافة والكرم، فهي من أهم ركائز ثقافة المنطقة، حيث يُستقبل الضيف بكل حفاوة، ويقدّم له الشاي بالنعناع كرمز للترحيب، مع إعداد وليمة دسمة حتى وإن كانت الإمكانيات محدودة.
وتتجسّد الروح الاجتماعية للمنطقة هويتها الوطنية والمجتمعية في احتفالاتها، خاصة حفلات الزواج والختان والمناسبات الدينية، كما تعرف بعادة «الركب – العراضة»، وهي عادة عريقة في الأعراس، حيث يتجمّع الفرسان في موكب احتفالي لاستعراض مهاراتهم في «الفنتازيا» (التبوريدة)، وهي رقصات على ظهور الخيل بإيقاع البارود، تعبيرا عن القوة والفرح، زيادة على الأناشيد الدينية والمدائح النبوية التي ما زالت تشكل جزءا لا يتجزأ من الليالي الرمضانية والاحتفالات الكبرى.
قصّــــة إشعــــاع
إنّ ترقية العريشة إلى ولاية جديدة لا يمثّل فصلا إداريا جديدا فحسب، بل اعترافا أيضا بعمقها التاريخي والثقافي، وبابا مفتوحا على فرص تنموية واسعة، فسكان المنطقة يعوّلون كثيرا على قرار الترقية، في وقت يرجعون فيه ظاهرة التأخر التنموي التي عانت منها ولايتهم قبل ترقيتها الإدارية، إلى التأثير الطاغي والمهيمن لمدينة تلمسان (الولاية الأم سابقا)، فجمال تلمسان، وسحرها التاريخي، وإشعاعها الحضاري، وطابعها السياحي والديني، أسقط هالته وأرخى ظلّه على المنطقة، حيث جذبت تلمسان كل الموارد والاهتمام، ممّا تسبب في إهمال الأطراف.
في المقابل، عانت العريشة والمناطق الجنوبية المتاخمة للسهوب والصحراء من تأثير «الظل» الذي ألقاه إشعاع تلمسان، بفعل المسافة الجغرافية الطويلة عن عاصمة الولاية، حيث عانت العريشة وسكانها تأخرا في تنفيذ المشاريع، وضعفا في متابعتها وتحديا كبيرا للمواطنين في قضاء حاجياتهم الإدارية والطبية، فيما كانت توجّه أغلب ميزانيات التنمية لصيانة وتطوير البنية التحتية الحضرية والسياحية في تلمسان وضواحيها القريبة، بينما كانت العريشة تحصل على حصة ضئيلة لا تتناسب مع احتياجاتها الأساسية (الماء، الغاز، الطرق المعبّدة).
التّرقية الإدارية..تعزيز المسار التّنموي
يمكن القول إنّ القرار السّيادي بترقية العريشة إلى ولاية كاملة الصّلاحيات يمثّل اعترافا رسميا بوجود هذا الخلل التنموي، ومحاولة لتفكيك «هالة» تلمسان التي غطّت على حرمان الأطراف، كما أنّ للترقية دلالات أخرى لها تأثيرات إيجابية جمّة، منها إنشاء مديريات تنفيذية مستقلّة وميزانية خاصة بها، ممّا يسمح بالاستثمار المباشر والفوري في القطاعات الحيوية (الفلاحة، الطرق، الصحة)، ممّا يمكّنها أيضا من تثمين مؤهلاتها الخاصة (الرعي، الزراعة السهبية، الموقع على طريق الجنوب) دون أن تكون في منافسة مباشرة مع الطابع السياحي والثقافي لتلمسان، فهذا القرار يهدف إلى إحداث توازن إقليمي جديد، يضمن أن يكون الجمال والتاريخ في تلمسان عاملا جاذبا للوطن ككل، بينما تكون العريشة مركزا تنمويا فاعلا في تثمين الموارد الفلاحية واللوجستية للغرب الجزائري.





