الذاكرة الوطنيــة ليسـت موضوعـــا قابــلا للتأجيــل
اعتبر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بالمدرسة العليا للأساتذة، البروفيسور مزيان سعيدي، أن هذه المصادقة تمثل منعطفا تاريخيا بالغ الأهمية، يندرج ضمن رؤية سيادية متكاملة رسم معالمها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، دفاعا عن الذاكرة الوطنية وصونا لها من محاولات الطمس والتشويه.
يبرز مشروع قانون تجريم الاستعمار الذي صادق عليه نواب المجلس الشعبي الوطني كخطوة مفصلية في مسار الدولة الجزائرية لما تحمله من دلالات سياسية ورمزية عميقة.
أوضح مزيان، خلال استضافته في برنامج «ضيف الصباح» بالإذاعة الوطنية، أن الإجماع البرلماني حول مشروع القانون يعكس تمسك الجزائريين بثوابتهم الوطنية التي لا تقبل المساومة، ويؤكد في الوقت ذاته أن الذاكرة الجماعية ليست موضوعا ظرفيا أو قابلا للتأجيل، بل ركيزة من ركائز السيادة الوطنية. وأضاف أن هذه الخطوة توجّه رسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن أبناء الاستقلال وأحفاد الشهداء متمسكون بحقهم في الدفاع عن تاريخهم، ورافضون لأي محاولات لإعادة صياغته بمنطق انتقائي يبرئ الجلاد ويدين الضحية.
وفي تحليله لأبعاد هذا المسار، شدد مزيان على أن تجريم الاستعمار يندرج ضمن جهد وطني متواصل تقوده الدولة الجزائرية من أجل تثبيت المرجعيات التاريخية الصحيحة، وإعادة الاعتبار لضحايا الاستعمار، في مواجهة محاولات تبييض الماضي الاستعماري أو التقليل من فظاعته. واعتبر أن الذاكرة، في هذا السياق، ليست مجرد سرد للأحداث، بل أداة لتحقيق العدالة التاريخية، وحصنا يحمي الهوية الوطنية من التشويه.
رمزية سياسية وتاريخية عميقة
ويرى مزيان أن قانون تجريم الاستعمار يحمل رمزية مزدوجة، تاريخية وسياسية، كونه يُتوّج نضالا طويلا خاضته الجزائر منذ الاستقلال من أجل الاعتراف بحقيقة الجرائم الاستعمارية وتصنيفها كجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. وأوضح أن هذا التحول يعكس انتقال الجزائر من مرحلة «التسامح المفروض» إلى مرحلة المطالبة الصريحة بالاعتراف والاعتذار والتعويض، بما يعزز السيادة الوطنية ويصحح الرواية التاريخية لصالح الضحايا.
وأكد أن الاستعمار الفرنسي كان «جريمة دولة» قائمة على سياسات ممنهجة من القتل والتجويع والتهجير القسري، ومصادرة الأراضي، ومحاولات محو الهوية الوطنية بكل أبعادها الثقافية والدينية. وأضاف أن تجريم هذه الجرائم قانونيا يشكل ضمانة للأجيال القادمة حتى لا تنقطع صلتها بالماضي، ويؤسس في الوقت نفسه لعلاقات دولية مستقبلية تقوم على احترام التاريخ والاعتراف بالحقائق، لا على إنكارها أو الالتفاف عليها.
الذاكرة شرط لأي علاقة متوازنة
وفي هذا الإطار، شدد مزيان على أن ملف الذاكرة التاريخية يمثل حجر الزاوية في أي مسعى لإعادة تأسيس العلاقات الجزائرية-الفرنسية على أسس سليمة، فحسب رأيه، لا يمكن الحديث عن تطبيع كامل أو شراكة متوازنة دون تحمل المسؤولية التاريخية والقانونية عما ارتُكب خلال الحقبة الاستعمارية.
وأكد أن هذه القضية لا تقبل التنازل أو المساومة، ولا يمكن أن تُمحى بمرور الزمن، خاصة وأنها مرتبطة بتاريخ معاصر لا يزال حيا في الذاكرة الجماعية، ومتصلا مباشرة بالثورة التحريرية المظفرة.
وأشار إلى أن مشروع قانون تجريم الاستعمار يشكل آلية أساسية لحماية الذاكرة الوطنية من محاولات التزييف، ويعكس إرادة سياسية واضحة في الدفاع عن حق الجزائر المشروع في كتابة تاريخها بنفسها، والوفاء لتضحيات ملايين الشهداء الذين صنعوا بدمائهم ملحمة التحرير وأرسوا دعائم الدولة المستقلة.
نحو تفعيل المساءلة القانونية
وفي سياق متصل، اعتبر مزيان أن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر لا تُغتفر، وأن آثارها المادية والمعنوية لا تزال ماثلة إلى اليوم. ورأى أن غياب المساءلة لا يمكن أن يستمر، ما يستدعي اللجوء إلى مبادئ القانون الدولي الجنائي، وتفعيل آليات التقاضي أمام الهيئات الدولية المختصة، بهدف محاكمة الانتهاكات الاستعمارية وجبر ضرر الضحايا.
وأوضح أن قانون تجريم الاستعمار فعل سيادي بامتياز، ورسالة صريحة تؤكد أن الذاكرة الجماعية الجزائرية غير قابلة للنقاش أو المساومة. ودعا إلى تعويض شامل ومنصف عن الأضرار التي خلّفها الاستيطان الفرنسي، بما يشمل تنظيف مواقع التفجيرات النووية والتجارب الكيماوية، ونزع الألغام، واسترجاع الأموال المنهوبة، واستعادة الأرشيف الوطني باعتباره جزءا لا يتجزأ من السيادة.
بعد إفريقي وعدالة إنسانية
وعلى المستوى الإقليمي، أبرز مزيان الدور الريادي الذي لعبته الجزائر في الدفاع عن العدالة التاريخية للشعوب الإفريقية، مذكرا بأنها، وهي في خضم ثورتها التحريرية، ساهمت في دعم استقلال أكثر من اثني عشر بلدا إفريقيا سنة 1960، وفضحت في المحافل الدولية حقيقة المشروع الاستعماري الفرنسي الاستيطاني. وأكد أن هذا المشروع، الذي سعى إلى ضم وطن غيره بالقوة ومحو أمة بكامل مقوماتها، يُعد من أطول وأعنف المشاريع الاستعمارية في التاريخ الحديث.
وختم مزيان بالتأكيد على أن مشروع قانون تجريم الاستعمار يحظى بإجماع وطني واسع، ويأتي امتدادا لخطوات سيادية سابقة، على غرار استرجاع جماجم الشهداء سنة 2020. واعتبر أن هذه الخطوات تعكس اعتزاز الجزائريين بهويتهم وتاريخهم، وإصرار الدولة على كتابة تاريخها وفق ثوابتها الوطنية، والدفاع عن سيادتها بكل أبعادها السياسية والرمزية.



