في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم، صار التحول الرقمي حتمية قصوى للدول الطامحة إلى بناء نماذج اقتصادية قوية ومستدامة، وفي الجزائر تبرز التكنولوجيات الحديثة كحجر الزاوية في معادلة الخروج من التبعية للمحروقات، وهو المسار الذي رسم معالمه بوضوح رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، من خلال توجيهاته الصارمة والمستمرة بضرورة الذهاب نحو “الرقمنة الشاملة” كخيار سيادي واستراتيجي.
إنّ العلاقة بين التكنولوجيات الحديثة والتنويع الاقتصادي علاقة طردية وتكاملية؛ فالاقتصاد المتنوّع لا يقوم فقط على تعدد القطاعات (فلاحة، صناعة، خدمات)، بل يعتمد أساسا على كفاءة هذه القطاعات وتنافسيتها، وهنا يأتي دور التكنولوجيا لرفع الإنتاجية، تقليص التكاليف، وتحسين جودة المنتجات والخدمات.
ففي قطاع الفلاحة، تتيح التطبيقات الذكية والأنظمة الحديثة الانتقال إلى “الزراعة الدقيقة”، وفي الصناعة، تفتح الأتمتة والذكاء الاصطناعي آفاقا لرفع القدرة التنافسية للمنتج الوطني في الأسواق الدولية. أما في قطاع الخدمات والمالية، فتعد التكنولوجيا المالية (FinTech) العصب الرئيسي لتحديث المنظومة البنكية واستقطاب الكتلة النقدية من السوق الموازية، وهو ما يصب مباشرة في شريان الاقتصاد الرسمي.
الرّقمنة..قرار سيادي وأداة للحوكمة
لقد أدرك رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، منذ توليه سدة الحكم، أنّ أي حديث عن إقلاع اقتصادي حقيقي سيظل حبرا على ورق ما لم يرتكز على أرضية صلبة من البيانات الدقيقة والشفافية التامة، ومن هنا، جاء إصراره على “الرقمنة الشاملة” لمختلف مؤسسات الدولة والقطاعات الحيوية، ليس كإجراء تقني فحسب، بل كأداة فعالة للحوكمة الرشيدة ومحاربة البيروقراطية والفساد.
إنّ توجيهات الرئيس بإنشاء المحافظة السامية للرقمنة، وإلحاقها برئاسة الجمهورية مباشرة، تعكس الإرادة السياسية القوية لتسريع هذا المسار وإبعاده عن التجاذبات الإدارية، فالرقمنة في رؤية الرئيس، هي الأداة القادرة على إزاحة الضبابية والبيروقراطية، وهي الوسيلة الوحيدة التي تمكّن صانع القرار من الحصول على مؤشرات دقيقة حول المخزونات، الاستهلاك، الإنتاج والاستيراد، ما يسمح بضبط السوق الوطنية وحماية القدرة الشرائية للمواطن، وتوجيه الدعم لمستحقيه.
اقتصاد المعرفة..رهان على الابتكار
ولا يمكن إغفال النقلة النوعية التي أحدثتها فكرة استحداث وزارة خاصة باقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغرة، فهذا الخيار الاستراتيجي يترجم إيمان القيادة العليا للبلاد بأن الثروة الحقيقية للجزائر تكمن في طاقاتها الشبابية المبدعة.
ولقد وفّرت الدولة، بتوجيهات من الرئيس تبون، بيئة حاضنة للابتكار، من خلال ترسانة قانونية مُحفِّزة، وآليات مؤسساتية مرافِقة، وصناديق تمويل مخصّصة للمؤسسات الناشئة، كما تم اعتماد تسهيلات جبائية وإجرائية، وتكريس مبدأ “المؤسسة الناشئة” كوضع قانوني مميّز، إلى جانب تشجيع إنشاء حاضنات أعمال ومسرّعات في الجامعات ومراكز البحث والمناطق الصناعية، بما يسمح باحتضان الأفكار المبتكرة ومرافقتها في مختلف المراحل، من الفكرة إلى النموذج الأوّلي ثم إلى منتج أو خدمة قابلة للتسويق.
ويهدف هذا التوجّه إلى خلق نسيج واسع ومتنوّع من المؤسسات الناشئة القادرة على تقديم حلول تكنولوجية عملية للمشاكل الاقتصادية والتنظيمية التي تواجهها القطاعات المختلفة، من الفلاحة والصناعة إلى الخدمات واللوجستيك، كما يُراهن على تمكين هذه المؤسسات من تصدير الخدمات الرقمية والمنتجات البرمجية نحو الأسواق الإقليمية والدولية، بما يساهم بشكل مباشر في تنويع مصادر الدخل بالعملة الصعبة، وتقليص التبعية لعائدات المحروقات، وفتح آفاق جديدة لتموقع الاقتصاد الوطني ضمن سلاسل القيمة العالمية للاقتصاد الرقمي.
السّيادة الرّقمية تدعم السّيادة الاقتصادية
إنّ مشروع التحول الرقمي الذي يقوده السيد رئيس الجمهورية، يتجاوز البعد الاقتصادي ليصل إلى مفهوم “السيادة الرقمية”، فبناء مراكز البيانات الوطنية (Data Centers)، وتطوير البنية التحتية للألياف البصرية، وتعزيز الأمن السيبراني، كلها خطوات تهدف إلى ضمان استقلالية القرار الاقتصادي وحماية المعطيات الوطنية.
إنّ التكنولوجيات الحديثة هي القاطرة التي ستقود الجزائر نحو اقتصاد ما بعد النفط، وإن الخيارات الاستراتيجية للسيد عبد المجيد تبون، المتمثلة في المسارعة بالرقمنة الشاملة وتشجيع الابتكار، تمثل خارطة طريق واضحة المعالم لتحقيق هذا الهدف. والنجاح في هذا المسار يتطلّب انخراطا جماعيا من كافة الفاعلين، إدارة ومتعاملين اقتصاديين ومجتمعا مدنيا، لتجسيد هذه الرؤية المتبصّرة، وتحويل الجزائر إلى قطب اقتصادي ورقمي رائد إقليميا وقاريا.


