خطـــوة لإعـــادة توجيه العلاقــات بـين البلديــــن إلى مسارهـا الصحيـح
على خلاف الموقف الفرنسي، يؤكد مختصون في القانون والعلاقات الدولية أن قانون تجريم الاستعمار الفرنسي يشكّل خطوة جديدة نحو إعادة توجيه العلاقات بين البلدين إلى مسارها الصحيح.
أثار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي صادق عليه المجلس الشعبي الوطني، الأربعاء، حفيظة ممثلي فرنسا الاستعمارية الذين يحاولون التهرب من مسؤولياتهم التاريخية، غير أن المتسبب الحقيقي في عرقلة هذا المسار، وفق متابعين، هو باريس نفسها، برفضها الاعتراف الرسمي بجرائمها الاستعمارية وتقديم اعتذار صريح للشعب الجزائري عن فظائعها، وهي مطالب تعتبرها الجزائر أساسا لأي استئناف لعلاقات دبلوماسية متوازنة. كما تصرّ فرنسا، في السياق ذاته، على إيواء إرهابيين وخارجين عن القانون للإضرار بمصالح الجزائر، مع تصعيدها مواقف تتنافى مع الأعراف الدبلوماسية.
وفي هذا الإطار، أوضح أستاذ القانون والعلاقات الدولية الدكتور رشيد خلف الله لـ»الشعب» أن هذه الخطوة من شأنها تحريك ملف العلاقات من جديد، ووضع الأطراف الرسمية في فرنسا أمام مسؤولياتها، بما يتطلب جرأة سياسية لمعالجة هذا الملف.
واعتبر أن القانون يشكّل ورقة قانونية لتكييف الجرائم المرتكبة في حق الشعب الجزائري، ويضع الجانب الفرنسي أمام مطالب قابلة للمعالجة القضائية، بما يخفف الضغوط السياسية المباشرة عن الحكومة الفرنسية، وأضاف أن أي تقدم في العلاقات بين الجزائر وباريس لا يمكن أن يتحقق دون احترام التاريخ والاعتراف بالحقائق التي لا يمكن طمسها أو التغاضي عنها، بالنظر إلى فداحة الجرائم المرتكبة على مدى فترة زمنية طويلة، مست مختلف مناحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، إلى جانب التجهيل الممنهج، وسياسة الأرض المحروقة، والإبادة الجماعية لأكثر من قرن، فضلا عن ذلك، لا تزال ملفات حساسة طيّ الكتمان إلى اليوم، في مقدمتها خرائط الألغام التي زرعتها قوات الاحتلال، ومواقع ردم المعدات والمواد المستعملة في التفجيرات النووية، وهي معطيات حيوية امتنعت فرنسا عن الكشف الكامل عنها. ويُعدّ هذا التكتّم استمرارا لسياسة الإنكار، ويضاعف من حجم المعاناة التي يعيشها السكان في المناطق المتضررة، في ظل مخاطر دائمة تهدد الأرواح وتقيّد التنمية.
ولا تزال آثار هذه الجرائم حاضرة إلى اليوم، سواء من خلال الضحايا الذين سقطوا جراء انفجار الألغام، أو عبر الأضرار الصحية والبيئية الناجمة عن التلوث الإشعاعي، التي تمتد تداعياتها عبر الأجيال.
ويؤكد مختصون أن استمرار هذه الملفات دون معالجة جذرية يشكّل انتهاكا إضافيا لحقوق الإنسان، ويستدعي تحركا دوليا جادا لإلزام فرنسا بتحمّل مسؤولياتها والكشف عن الحقيقة كاملة.
وأشار في السياق ذاته إلى وجود تيارين داخل فرنسا: تيار يعترف بأن الاستعمار كان جريمة بحق الشعب الجزائري، وآخر يمجّد هذا الاستعمار. وذكّر بأن البرلمان الفرنسي أقرّ سنة 2005 قانونا يمجّد الاستعمار، ما أثار غضب الجزائريين ورفع الأصوات المطالِبة باعتراف باريس بجرائمها، لتتقدم كتل برلمانية جزائرية آنذاك بمشروع قانون لتجريم الاستعمار، قبل أن يتم سحب قانون تمجيد الاستعمار في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك سنة 2006.
من جهته، قال أستاذ القانون العام موسى بودهان، في تصريح لـ»الشعب»، إن فرنسا هي التي تقطع الطريق أمام علاقات طبيعية وسوية بين البلدين، بإصرارها على عدم تحمّل مسؤولياتها التاريخية والقانونية عن الفظائع المرتكبة في حق الشعب الجزائري والبيئة طيلة 132 سنة، بل ومواصلتها تأزيم العلاقات من خلال إيوائها للحركة الإرهابية «ماك»، ودعمها للخارجين عن القانون الذين يضرون بمصالح الجزائر، عبر توفير المأوى والحصانة والحماية لهم.
واعتبر أن القانون المصادق عليه يُعدّ حقا سياديا خالصا للجزائر، نابعا من أحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، اللذين تجاهلتهما فرنسا طيلة الحقبة الاستعمارية. فالتشريع الجديد، وفقه، لا يستهدف التصعيد السياسي، بل يكرّس ممارسة قانونية مشروعة تهدف إلى حماية الذاكرة الوطنية، وتثبيت الحق التاريخي للشعب الجزائري في المطالبة بالاعتراف والإنصاف، انسجاما مع المبادئ الدولية التي تُجرّم الاحتلال والجرائم ضد الإنسانية.
وأوضح في هذا السياق أن فرنسا ارتكبت، خلال 132 سنة من الاستعمار، انتهاكات جسيمة تمسّ جوهر هذه القوانين، من خلال الاعتداء على سيادة البلاد ونهب ثرواتها الطبيعية، إلى جانب تدمير ممنهج للبيئة والمحيط الحيوي، وهي أفعال لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تبريرها أو طمسها بخطابات سياسية ظرفية، لما خلّفته من آثار عميقة على الإنسان والأرض على حد سواء.
وشدّد المتحدث على أن خطورة هذه الجرائم تفرض اليوم إطلاق مبادرات قانونية وقضائية خاصة لمقاضاة فرنسا بشأنها، سواء تعلق الأمر بمخلفات التجارب النووية في الجنوب الجزائري، أو بالألغام المزروعة التي لا تزال تهدد الأرواح والبيئة.
وأكد أن تحمّل فرنسا لمسؤولياتها التاريخية والقانونية في هذا المجال لا يمكن أن يظل حبيس التصريحات أو المقاربات الرمزية، بل يقتضي إجراءات ملموسة في مقدمتها إلزامها بتنظيف آثار جرائمها الاستعمارية، لاسيما مخلفات التجارب النووية التي ما تزال تسمّم الأرض والإنسان في مناطق واسعة من الجنوب الجزائري، وتشكل خطرا دائما على الصحة العامة والبيئة.
وأضاف أن الكشف الكامل عن المعطيات التقنية والخرائط الدقيقة المرتبطة بمواقع الألغام ومخلفات التفجيرات يُعدّ شرطا أساسيا لأي مسار جاد نحو العدالة التاريخية، إذ لا يمكن الحديث عن مصالحة حقيقية دون جبر الضرر وإنصاف الضحايا. وشدّد على أن هذه الخطوات تمثل مدخلا ضروريا لإعادة الاعتبار للذاكرة الوطنية، وترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الشعوب.



