قدمت الفنانة التشكيلية أم الخير كليليش، في معرضها بالمتحف العمومي الوطني للفن الحديث والمعاصر بوهران “مامو”، والذي اختتمت فعالياته أول أمس الخميس، تجربة تشكيلية ذات عمق بصري وفلسفي، سعت من خلالها إلى إعادة النظر في علاقة اللون بالذاكرة، وفي قدرة الفن على تحويل ما يرحل إلى أثر لا يزول.
ضمّ المعرض مجموعة من الأعمال الجديدة التي تكشف ملامح مشروع بصري يقوم على تحويل اللون إلى ذاكرة، والغياب إلى حضور، واللحظة العابرة إلى زمن متجذّر في سطح اللوحة.
قالت الفنانة أم الخير كليليش في تصريحها لـ«الشعب”، أن الفنون البصرية، وعلى رأسها اللوحة التشكيلية المعاصرة، تُعدّ من “أصدق الشواهد على مسيرة الفنان الإبداعية، فهي تجسد مراحله الحياتية والفكرية وتعكس رؤيته الجمالية تجاه العالم”. وأوضحت أن اللوحة بالنسبة لها ليست مجرد تشكيل لوني أو مساحة لعرض التقنية، بل هي أثر إبداعي يوثّق لحظة من التجربة الإنسانية في مواجهة الزمن، ويمنح الجمال فرصة للاستمرار حتى بعد تغيّر شكله الأول.
وذكرت كليليش، أن مشروعها في هذا المعرض يقوم على طرح جملة من الأسئلة الجوهرية حول معنى الجمال واستمرار أثره، قائلة: “فهل يمكن للجمال أن يظل حيًا بعد رحيله؟ هل يستطيع العمل الفني أن يحفظ ما يتلاشى في الزمن؟ وهل تبقى الألوان بعد رحيلها الأبدي؟”. وتؤكد أن هذه التساؤلات ليست نظرية فقط، بل هي أساس نظرتها إلى الفن، وإلى قدرة اللون على أن يتحوّل من كيان حسي إلى ذاكرة خالدة.
وتقول الفنانة، “إن الألوان داخل لوحاتها لا تُعامل كعناصر تشكيلية جامدة، بل ككائنات حيّة تمرّ بدورة وجودها الخاصة. فقد كانت جزءا من الطبيعة، نابضة بالحياة، ثم غادرت عالمها المادي لتتجسد داخل اللوحة كأثر بصري متحوّل”. وتضيف موضحة: “إن ما نراه على سطح القماش ليس لونا ثابتا، بل ذاكرة لون راحل ترك ظلّه ليحيا في شكل جديد”. بهذا المعنى تتحوّل اللوحة إلى فضاء وسيط بين الوجود والغياب، بين الزمن المتدفق والزمن المتجمّد في الذاكرة، حيث لا يعود اللون مجرد حالة بصرية، بل يصبح حاملاً لطبقات من الإحساس والزمن.
كما أوضحت كليليش، أن العملية الإبداعية نفسها تمثّل نوعا من الرحيل الجميل، فالرسام يلتقط لحظة من العالم ـ ضوءا أو شعورا أو ظلا عابرا ـ ثم يعيد صياغتها داخل فضاء اللوحة ليمنحها حياة أخرى. وتقول: “اللوحة لا تسجل الواقع كما هو، بل تعيد ولادته في شكل رمزي خالد”. وهنا يتحوّل الرحيل من فقدان إلى فعل خلق جديد، إذ لا تموت الألوان في نظرها، بل تنتقل من حالتها الحسية إلى حالتها الروحية، يذوب جسد اللون، لكن تبقى ذاكرته.
وتضيف الفنانة التشكيلية، أن الأثر الفني ليس مجرد تسجيل لما كان، بل هو حياة ثانية للجمال وامتداد آخر للزمن في صورة مرئية. فكل لون على سطح اللوحة يحمل زمنا مضى، وكل ظلّ يوحي بأن الوجود ما زال يتنفّس ولو في غياب شكله الأول. وذكرت أن الفن في جوهره مقاومة ناعمة للفناء، ومحاولة لحفظ ما لا يمكن الإمساك به في اللحظة العابرة.
وبهذا الطرح الجمالي، قدّم معرض “رحلة الألوان إلى ذاكرة الأثر” تجربة سمحت للمتلقي بالتنقل بين الحالة المادية للون وبين حضوره الرمزي، بين ما يتلاشى وما يبقى، وبين الغياب والحضور. إنها دعوة للتأمل في قدرة الفن على الاحتفاظ بما يتبدّد، وعلى تحويل الذاكرة إلى أثر بصري يستمر في الحياة داخل اللوحة حتى حين يرحل مصدره.







