في قلب خيمة صغيرة على أطراف غزة المحاصرة، حيث يختلط صدى القذائف بصوت الريح، ولدت كلمة قبل أن يولد صوت، وبدأت طفلة في الخامسة عشرة من عمرها تكتب حياة وطنٍ لم يعرف السلام منذ زمن.
لم تكن آلاء العقّاد تبحث عن شهرة، ولم تكن تحتاج إلى اعتراف، لكنها قرّرت أن تجعل من دفترها حصنا، ومن قلمها سيفا، ومن خواطرها صرخات صمت لا يُمكن للعالم تجاهلها.
هذه اليوميات هي ملحمة حيّة من قلب النزوح والحصار.. سردية تحمل عبء الطفولة والروح الوطنية معا، وتنسج من الحبر أسطورة لا تُمحى.
هنا، في الخيمة التي صارت وطنا مؤقتا، نتعرف على آلاء كما لم نعرف أحدا من قبل: طفلة ترى الموت بعينيها، لكنها تختار الحياة بالكلمة، طفلة تعرف أن الخوف يمكن تحويله إلى كتابة، وأن الحبر أقدر على المقاومة من الرصاص.
من هذا المكان الصغير، ومن قلب غزة المحاصرة، تبدأ رحلة صوت فلسطيني يتجاوز الخراب والدمار، صوت لا يُقهَر، ولا يُسكت.
يوميات آلاء شهادة حية، وحكاية وطن يُكتب بحروف طفل، ومقابلة مع الصمود الذي لا يعرف نهاية.
آلاء العقّاد، طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، لم تعرف الحياة كما عرفها الأطفال في أماكن أخرى، بل عرفتها على هيئة خيمة متواضعة تحرسها سماء مشقوقة فوق غزة المحاصرة.
منذ السادس والعشرين من حزيران، صارت حياتها خيمة واحدة، وجسد واحد، ودفتر صغير، حيث تسطر خواطرها وتبث صرخات صمت لم يسمعها العالم.
لم تولد لتصبح أسطورة، لكن الأسطورة اختارتها، وجعلت منها شاهدة على نزف وطن، وراوية لقصة لا تنتهي.
في الخيمة، حيث تختلط رائحة التراب برائحة البارود، تتعثر الكلمات أحيانا قبل أن تصل إلى الصفحة، لكنها تصل.
كل فقرة هي محاولة لإعادة ترتيب العالم: البيت لم يعد جدرانا، بل أسماء من بقي ومن غاب؛ السقف لم يعد سقفا، بل سماء منخفضة تمرّ فيها الطائرات كوحوش معدنية، والخوف صار زائرا دائما. هنا، على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، تعلمت آلاء أن تصنع الوطن بالحبر، وأن تمنع الركام من أن يمحو الحياة.
آلاء من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن كلماتها كانت أكبر من جسدها الصغير. كل كلمة تكتبها بمثابة صرخة ضد العالم، ضد الصمت، ضد كل من يظن أن طفلا لا يملك صوتا.
في نصوصها، لا تظهر بوصفها ضحية، بل شاهدة على ظلم مستمر، على عالم عاجز عن حماية أبسط الحقوق: حق الحياة، وحق الطفولة.
كانت تقول دون كلمات: “أنا لا أملك درعا، لكني أملك ذاكرة، أنا لا أملك سلاحا، لكني أملك قلما”.
وفي كل مرة تسقط فيها قذيفة بالقرب من خيمتها، كان قلمها يكتب أسرع، وكأن كل سطر يصد الموت ويثبت أن الحياة لا يمكن أن تُسلب من قلب يعرف أن يحب. القنابل، في كتاباتها، تتحوّل إلى وحوش أسطورية، أما الخوف فيصير ظلا يمكن الإمساك به وتحويله إلى كلمات تصنع حضارة صغيرة وسط الخراب.
منذ بدء الحرب، تحوّلت الأيام إلى ملاحم قصيرة، وجعلت كل ساعة حياة كاملة.
آلاء تسجل كل شيء: أسماء الأطفال الذين غادروا، أسماء الجيران الذين بقوا، والضحكات التي لم تنقطع رغم الركام.. كانت تكتب على ضوء الشموع، وعلى أزيز الطائرات، وعلى صوت الأم التي تحاول تهدئتها وهي تحضنها من برد الليل. اليوميات لم تكن مجرد كتابة، بل مقاومة. كانت تقول للعالم: “أنا هنا، وأنا أرى ما لا تراه أعينكم”.
ولم تكن هذه الكلمات مجرد كلمات، بل عقود من الصمود، ومحاولة لإثبات أن الضحية لا تصمت إذا كان في قلبها وطن. وكل من يقرأها اليوم يكتشف أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل ذاكرة تُكتب بالحبر والدموع.
في صفحاتها، تمزج الطفولة بالمقاومة. كتاباتها مليئة بالأسئلة البسيطة: لماذا نُقتل؟ لماذا يُحاصر الوطن؟ لماذا يُطالَب الضحية بإثبات إنسانيته؟ لكنها لم تترك الأسئلة فقط، بل وضعت معها حلما صغيرا: يوم سيقرأ العالم قصتها، وسيفهم أن الأطفال في غزة يعيشون بصمود يفوق عمرهم.
كل فقرة هي خيمة إضافية للذاكرة الفلسطينية، كل جملة هي طفل نجى من القصف، وكل كلمة هي شهادة ضد العمى العالمي.
الطفلة لم تطلب شفقة، لم تستجِد تضامنا موسميا، بل أعلنت وجودها كجزء أصيل من سردية فلسطين المعاصرة: سردية الطفل الذي يرى أكثر مما يحتمل عمره، ويكتب أكثر مما يطيق قلبه.
وحين نقرأ آلاء اليوم، ندرك أن الإبادة فشلت في هدفها الأشد قسوة: قتل الصوت.
فالصوت الذي يخرج من خيمة، ومن جسد صغير، ومن قلب في الخامسة عشرة، هو أخطر على الظلم من ألف خطاب. آلاء تكتب، إذن هي موجودة.
وآلاء موجودة، إذن فلسطين ما زالت تتكلّــم.
القصص التي تنسجها بين السطور ليست مجرد ذكريات، بل ملحمة حية، أسطورة وطنية تُحاكي العالم: كيف يمكن للطفلة أن تتحوّل إلى رمز للثبات، وكيف يمكن للكلمة أن تكون سلاحا أعظم من أي سلاح.
وكل من يقرأ هذه اليوميات، يسمع قلب فلسطين ينبض من جديد، ويشعر بأن الحرب لم ولن تمحو الأمل الذي يكتبه الأطفال بأيديهم الصغيرة، لكنه أكبر من كل شيء.
آلاء لم تتوقف عن الكتابة، حتى حين ضاقت الخيمة بكل شيء، وضاق بها العالم من حولها.
كانت تصنع الأمل من رماد الخوف، والحبر من دموعها، والكلمات من الهواء الذي يمرّ بين أصابعها. كانت تحلم بسماء بلا طائرات، وبأرض بلا قنابل، وبأطفال بلا خوف، لكنها كانت تعرف أن حلمها هو رسالة لكل من يحاول أن يسمع. وكل يومية جديدة هي نبوءة بأنّ الفلسطيني سيظل صامدا، وأن طفلة في الخامسة عشرة تستطيع أن تكتب أسطورة لا يمحوها التاريخ، ولا تسحقها الحروب.
آلاء، ابنة الخمسة عشرة، من ذوي الاحتياجات الخاصة، من خيمة صغيرة على أطراف الحصار، من قلب غزة الذي لم يعرف الراحة منذ عقود، قد أثبتت أن الكتابة يمكن أن تكون ملحمة، وأن القلم أقوى من القنابل وأن الروح الحرة لا تنكسر مهما حاول العالم أن يسحقها. وكل قارئ، مهما كان بعيدا، يشعر بها كأنها تقول له: “أنا هنا، أنا أكتب، أنا أعيش… وفلسطين معي.”
ومهما ثقلت الأيام على خيمة صغيرة، ومهما صرخ الموت من حولها، بقيت آلاء تكتب… وبقيت كلماتها ترفض الانكسار. كل حرف هو جسر يربط الحاضر بالمستقبل، وكل سطر هو صرخة حرية تصدح عبر الزمن.
وفي دفاترها الصغيرة، يختبئ وطن كامل: لا ينهار بالرصاص ولا يطوى بالحصار، وطن ينبض في قلب كل فلسطيني صغير وكبير، وطن يتنفس في كل قلم يكتب، وفي كل عين ترى الحقيقة وتصرّ على الحياة.
إنها النهاية التي لا نهاية فيها، إذ أن إرادة الشعب الفلسطيني، مثل قلم آلاء، لا يعرف الخضوع.
الحبر الذي ينسج اليوميات هو دم الوطن وصموده، والصوت الذي ينبعث منها ليس صوت طفلة فحسب، بل صوت أمة بأكملها تقول للعالم: لن تموت فلسطين ما دام هناك من يكتب ويحب ويقاوم ويؤمن بالحرية.
وفي ختام كل يومية، كما في بداية كل صفحة جديدة، يبقى الأمل حيا، والصمود حاضرا، والطفولة حرة… لأن الفلسطيني، مهما قست عليه الأيام، يبقى قلما لا يُكسر، وروحا لا تُقهَر، ووطنا لا يُمحى.






