تعد جريدة “البصائر” إحدى أبرز التجارب الصحفية الإصلاحية في تاريخ الجزائر، وفي الذكرى التسعين لتأسيسها (27 ديسمبر 1935)، يعود الدكتور مولود عويمر، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر، للوقوف عند ملامح التميّز التي صنعت استمرارية هذه الجريدة وخلود رسالتها، في سياق تاريخي اتسم بصعوبة العمل الصحفي تحت وطأة الاستعمار الفرنسي.

أكد الدكتور عويمر في تصريح لـ«الشعب”، أن “البصائر” مشروع فكري وإصلاحي متكامل أسهم في تشكيل الوعي الوطني، واستطاع تجاوز عوائق الزمن ليظلّ حاضرا إلى اليوم.
وأوضح المتحدث أن الصحافة العربية في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية عرفت صدور عشرات الجرائد، سواء بمبادرات فردية لعلماء وأدباء أو بجهود جماعية لجمعيات وزوايا وأحزاب سياسية، غير أن أغلبها توقّف سريعا لأسباب مادية وإدارية، في مقدمتها شحّ الموارد، وندرة المطابع العربية، والتضييق الاستعماري. غير أن جريدة “البصائر”، بوصفها لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، استطاعت تجاوز هذه العراقيل والاستمرار في أداء رسالتها.
وأشار عويمر إلى أن الاستمرارية وطول العمر كانا من أهم عناصر تميّز “البصائر”، إذ صدرت في مرحلتها الأولى بين سنتي 1935 و1939، ثمّ استأنفت نشاطها من 1947 إلى غاية 1956، قبل أن تعود إلى الصدور بعد الاستقلال، وهو مسار نادر في تاريخ الصحافة الجزائرية. واعتبر أن هذا الامتداد الزمني يعكس قوة المشروع الفكري الذي حملته الجريدة، والدعم المتواصل الذي حظيت به من جمعية العلماء.
وأبرز عويمر أن شهرة أقلام “البصائر” وصرامة هيئتها التحريرية منحتها مكانة خاصة، حيث كتب فيها كبار رموز الإصلاح والفكر في الجزائر، على غرار عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، والعربي التبسي، وأحمد رضا حوحو، وغيرهم، وكانت المقالات تخضع لمراجعة دقيقة من هيئة تحرير صارمة، ما ضمن مستوى علميا ولغويا راقيا، ورسّخ ثقة القراء ومكانة الجريدة في المشهد الصحفي، وأضاف أن “البصائر” تميّزت بـتنوع موضوعاتها ومواكبتها لمتطلبات العصر، إذ انفتحت على الأدب، والشعر، والعلوم الحديثة، والسياسة، والأخبار المحلية والدولية. وخصّصت أركانا ثابتة للوعظ والنقد الأدبي، والعلوم، والتفاعل مع القراء، كما أولت اهتماما خاصا بالقضايا الوطنية الكبرى، خاصة مع اندلاع الثورة التحريرية، حيث أفردت لها ركنا لمتابعة تطوراتها.
وفي السياق ذاته، أكد عويمر أن “البصائر” كانت سبّاقة إلى تجديد الأشكال الصحفية في الجزائر، من خلال إدخال الحوار الصحفي والبورتريه، وتغطية النشاطات الثقافية والفنية، مثل زيارة الفرقة القومية المصرية سنة 1950، ونشرها حوارا مع الفنان يوسف وهبي، ما يعكس انفتاحها على محيطها الثقافي العربي ومواكبتها للتطوّر الصحفي.
وأشار أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر إلى أن إشعاع “البصائر” تجاوز الإطار الوطني، ليصل إلى الفضاء العربي والإسلامي، بفضل شبكة واسعة من الكُتّاب والمراسلين من المشرق والمغرب، واعتمادها على مراسلين جزائريين في تونس ومصر وفرنسا، نقلوا أخبار الطلبة والنشاطات الثقافية والفكرية. كما حظيت مقالاتها بأصداء واسعة في عدة بلدان، وترجمت بعض موادها إلى لغات أخرى.
ولم تُغفل الجريدة ـ يقول عويمر ـ الجانب المالي والتنظيمي، إذ اعتمدت على المندوبين المتجولين للتعريف بها وجمع الاشتراكات، وحافظت على علاقة وثيقة مع قرائها الذين ساندوها في الفترات الصعبة، خاصة خلال أزمتها المالية سنة 1954، كما تميّزت بجرأتها في فتح النقاش واحتضان الرأي المخالف، من خلال مناظرات فكرية وفقهية عميقة، وفسح المجال لأقلام نسوية في سابقة لافتة في الصحافة الجزائرية.