قبل الإجابة على هذا السؤال ذي البعدين الأنطولوجي والإبستيمي، رأيت من الضروري أن أروي قصة شخصية تكون مهادا..
كنت تعرضت لأزمة نفسية حادة قبل سنوات بسبب حرماني من مواصلة الدراسات العليا في الحقل العلمي المتخصص فيه، وتمثلت يومها بالبيت الشعري القائل:
ألا رب باغ حاجة لاينالها
وآخر تأتيه وهو جالسُ
ومعنى البيت لا يحتاج مزيدا من الشرح، فهو يشرح نفسه بنفسه.. جعلت أردد هذا البيت على لساني وفي وجداني، حتى ترسخ معناه في أبعد نقطة في ذاتي.. وجاءت حوادث أنستني البيت الشعري، ودلالاته السطحية والعميقة..
ثم فتح الله عليّ من نواح أُخر، وأكرمني بفضله حتى أدهشني، وقلت أخيرا: الخير فيما اختاره الله، وكان ذلك بعد العطاء، لا بعد الحرمان، فانظر أي عبد كنته!
واليوم على متن القطار، كعادتي في تقليب الفكر، جال في بالي السؤال الآتي: هل تغيير زاوية النظر يحسن من الرؤية؟
قد لا نختلف أن المرء منا لا يمكنه في الوقت الواحد أن يكون في مكانين مختلفين في وقت واحد، ومنه فإن منظوره للشيء لا يتعدّد إلا بتغيير زاوية النظر، ومن خلال تجارب واقعنا يمكننا التأكد من صحة هذا الافتراض، وسأحاول تأكيده فيما يلي.
لقد قرأت قبل مدة أن أحدهم دخل لمحل بيع المواد الغذائية، فوجد شيخا يبدو عليه جلال العلم قد طلب كل ما في المحل من علب الياغورت، وقد كان في نيته أن يقتني منها علبا ليأخذها إلى أهله، فضجر من تصرف الشيخ!
وانتظر حتى خرج ذلك الشيخ، وراح يلوم البائع على مطاوعته لجشع الزبون، فأخبره البائع أن هذا الشيخ هو أبو عبد السلام وأن ما اقتناه سيوزعه على المرضى بالمستشفى الفلاني!!
انظر إلى هذه القصة التي سردتها لك، وتدبر فيها عزيزي القارئ، وانظر كيف أن الموقف نفسه يُقرأ قراءتين مختلفتين، بل متناقضتين كما في المثال السابق إذا ما غيرنا زاوية النظر، فهل يبقى عندك شكّ أن الرؤية مرتهنة بالموقع الذي تنظر منه إلى الشيء؟
طبعا: لا..
وفي حالتي التي ذكرتها لك في أول المقال، رحت أقرأ قضيتي من زوايا مختلفة عن ذي قبل. تساءلت: إن تأخر المطلوب قد يكون ذلك لعدم استعدادي له الاستعداد الكافي الذي يؤهلني للدراسة والتفوق، فليست إمكانية الدراسة كافية لوحدها ما لم تتوفر القدرة على الأداء والتحصيل العلمي. أو إن الفرصة الحقيقية لم تحن بعد، إذ هي تختارنا كما نختارها.
وبقيت حالة مستثناة، وهي الحالة التي نغيّر فيها زاوية النظر فيتوكّد عندنا الخاطر الأول، والرؤية الابتدائية التي تشكلت على صفحة الخيال، وتترسخ بطريق تزيح الشكّ شيئا فشيئا حتى لا يبقى مكان إلا لليقين. وحتى في هذه الحالة سنقول: إن تغيير زاوية النظر سيحسن من الرؤية، بتوكيدها.. أو يلغيها بنسفها!!






