لم يكن معتقل “سيدي تيمان” مجرد سجن عابر في جغرافيا الظلم، بل كان “غزة الصغرى” التي حُشرت خلف الأسلاك الشائكة. هناك، تلاشى الزمن والمهن والأعمار؛ انصهر الطبيبُ مع العامل، والعالمُ مع الأمي، والشيخُ الذي أثقله العمر مع الشاب الذي لم يختبر الحياة بعد.
كنّا نسيجاً واحداً يربطه قيدٌ حديدي، وعيوناً غُطيت بالعتمة لترى القلوبُ ما يعجز اللسان عن وصفه.
سيمفونية الموت..وزقزقة “العصافير”
تحت سقف “البركس” الذي ضجّ بمئة وعشرين حكاية وجع، كان السجان يطل من برجه العاجي كإلهٍ للموت. ببرودٍ سادي، يكسر صمت المكان بعبارة تفيض بالبشاعة: “جئت لأسمع زقزقة العصافير، لا أريد همسة واحدة”.
كان يطالبنا بصمت القبور بينما أرواحنا تصرخ من وطأة الركوع القسري. كان يريد تحويل كرامة البشر إلى محض خضوع، واختراع المبررات ليمارس طقوسه في التنكيل. وحين كانت الروح تفيض عن حاجة الصمت، كان يختار أثمن ما فينا ليضربه: كبارنا شيوخنا أكبر من هم في البركس بعضهم تجاوز الثمانين من عمره.
”وقوف الجبال”..حين تشيخ الإنسانية
خلف الجدران الباردة، كان المشهد يفطر الحجر؛ شيوخ في الثمانين، بوجوهٍ رسمت عليها سنوات غزة تجاعيد الصبر، يُسحبون من وسط الركام البشري. هؤلاء الذين أعجزهم المرض وهدّهم الجوع، يُجبرون على “الشبح”: الوقوف لساعات طوال، الأيدي مرفوعة نحو السماء كأنها ترفع شكواها لخالقها، والأقدام ترتجف تحت ثقل السنين والظلم.
كنا نجلس مكبلي الأعين، لكنّنا كنا “نرى” بأذاننا:
– نسمع أنين العظام وهي تتآكل.
– نسمع ضحكات السجانين الساخرة وهي تنهش وقار الشيب.
– نشعر بانهيار الجسد حين يرتطم بالأرض بعد ساعات من الصمود، لا يوقفه إلا فقدان الوعي.
الحكاية التي لن تموت
كانوا يقولون لنا: “أنتم هنا لأنكم فرحتم ووزعتم الحلوى” يوم السابع من أكتوبر، وكأنّهم يعاقبون فينا نبض الحياة وفرحة المسحوقين. أرادوا تحويلنا إلى “كائنات” بلا إرادة، لكنهم في كل مرة كانوا يواجهون جبالاً من الصبر لا تكسرها سياطهم.
هذه الحكايا ليست للبكاء، بل هي أمانة التاريخ. إنّ الصّمت عن “سيدي تيمان” هو جريمة أخرى تُرتكب بحق هؤلاء الشيوخ. إنّها صرخة لتدوين أكبر جريمة شهدتها البشرية في العصر الحديث، ليعرف العالم أن في تلك البقعة المظلمة، كان هناك بشرٌ واجهوا العبث بصدور عارية، وظلّوا رغم القيد..أعزّ من جلاديهم.







