حزمة تحفيزات جبائية للتوجه نحو المؤسسات المنتجة
ستّ ركائز أعادت الجزائر من خلالها صياغة قطاع الأعمال
أكد الخبير في السياسات الحكومية فارس هباش أن السياسة الاقتصادية الجزائرية شهدت، خلال الفترة الممتدة بين 2021 و2025، تحولا جذريا في فلسفة الدعم العمومي، انتقلت فيه الدولة من منطق الدعم الاجتماعي الواسع إلى اعتماد حزم تحفيزية موجهة نحو المؤسسة المنتجة.
أوضح الخبير هباش في تصريح لـ»الشعب» أن هذا التحول شمل قرارات مفصلية، من إلغاء الرسم على النشاط المهني إلى رفع رأس مال الصندوق الوطني للاستثمار، بما يعكس ملامح مرحلة جديدة من التمكين الاقتصادي، حرص رئيس الجمهورية على تجسيدها ميدانيا عبر ست ركائز أساسية لتشجيع الاستثمار المنتج. واعتبر أن التحفيزات المالية لم تعد مجرد إعفاءات ضريبية، بل تحولت إلى أدوات استراتيجية لتقليص المخاطر البنكية، ودعم التصدير الرقمي، وربط الصناعة بالابتكار، بما يضمن بناء نسيج اقتصادي قادر على المنافسة دوليا.
أكد هباش أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة (2021–2025) يمكن رصد تطور واضح في السياسة الاقتصادية الجزائرية، من خلال الانتقال من دعم عام ومتشعب إلى حزمة تحفيزات مالية أكثر توجيها نحو المؤسسة المنتجة، بهدف رفع وتيرة الاستثمار، وتوسيع القدرات الإنتاجية، وتحسين الإدماج المحلي، وصولا إلى التصدير. وأشار إلى أن هذه الحزمة لم تتشكل بإجراء واحد، بل تدرجت عبر قوانين الاستثمار والمالية، وأدوات الضمان والتمويل العمومي، ومنصات رقمنة الدعم والمتابعة، ما يجعلها أقرب إلى «سلسلة سياسات» تمس كلفة الانطلاق، وكلفة التشغيل، وسهولة التمويل، وقدرة المؤسسات على ولوج الأسواق الخارجية.
إقلاع حقيقي وقفزة إنتاج
وتتمثل الركيزة الأولى، حسب الخبير الاقتصادي، في إعادة ترتيب الامتيازات الاستثمارية بما يخفف العبء المالي في أكثر المراحل حساسية بالنسبة للمؤسسات، وهي مرحلة الإنشاء والتجهيز. فمع قانون الاستثمار رقم 22-18، عادت الدولة إلى منطق الامتيازات الموجهة للمشاريع المنتجة، من خلال إعفاءات تمس مباشرة فاتورة الاستثمار الأولية، كالإعفاء من الحقوق الجمركية للسلع المستوردة الموجهة لإنجاز الاستثمار، والإعفاء من الرسم على القيمة المضافة للسلع والخدمات المرتبطة به، إلى جانب تسهيلات أخرى على الرسوم والإجراءات المصاحبة، كما تبرزها الوثائق المرجعية الرسمية.
واقتصاديا، لا تُعد هذه الامتيازات مجرد تفاصيل محاسبية، بل تعني عمليا تمكين المؤسسات من اقتناء الآلات وخطوط الإنتاج والتجهيزات بكلفة أقل، ما يرفع قابلية الإقلاع، خاصة في الصناعات التحويلية كثيفة المعدات. غير أن الامتيازات الجبائية وحدها لا تصنع قفزة إنتاجية إذا ظل التمويل البنكي مقيدا بنقص الضمانات.
وهنا تبرز الركيزة الثانية المرتبطة بأدوات الضمان العمومي التي تتدخل لتقاسم المخاطر مع البنوك. ويضطلع صندوق ضمان القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بدور محوري في تسهيل حصول هذه المؤسسات على القروض البنكية عبر تقديم ضمانات مالية وتقاسم أخطار التمويل. وبالانتقال من التعريف إلى الأثر، تشير معطيات وتقارير اقتصادية إلى ضمان 561 عملية قرض استثماري خلال سنة 2024، بقيمة إجمالية فاقت 35 مليار دينار.
الانتقال من الإعلان إلى التفعيل
وأشار المتحدث إلى أن الضمان العمومي يشتغل، بلغة الاقتصاد، كرافعة تقلص مستوى المخاطر التي تضعها البنوك على المؤسسة المنتجة، وتفتح الائتمان أمام مشاريع كانت ستتوقف عند عتبة الضمانات.
أما الركيزة الثالثة فتتعلق بتخفيض كلفة ممارسة النشاط نفسها، أي الضرائب التي تثقل الدورة اليومية للمؤسسة. ومن أبرز القرارات في هذا الإطار، الإلغاء الكلي للرسم على النشاط المهني ابتداء من قانون المالية 2024، وهو رسم كان يمثل عبئا على رقم الأعمال. وأكد أن وزارة الداخلية والجماعات المحلية أوضحت أن قانون المالية 2024 عوّض الأثر الناتج عن هذا الإلغاء بترتيبات جبائية محلية أخرى، ما يعني أن الإجراء لم يكن حذفا بسيطا، بل إعادة توازن داخل المنظومة الجبائية، وهو ما وثقته مذكرات التطبيق المرتبطة بالقانون، مؤكدة الانتقال من مستوى الإعلان إلى التفعيل الإداري.
ويرى هباش أن الأثر الاقتصادي لهذا القرار مباشر، إذ يساهم في خفض كلفة النشاط، ويمنح المؤسسة هامشا أكبر لإعادة الاستثمار أو تحسين الأسعار أو خلق مناصب شغل، بما يخدم هدف تطوير الإنتاج الوطني وتعزيز تنافسية المنتوج المحلي.
أما الركيزة الرابعة فارتبطت بتوجيه الحوافز نحو الاستثمار الحقيقي بدل الاستفادة السلبية من الإعفاءات. ففي قانون المالية 2023، برز توجه واضح لضبط مسألة إعادة استثمار جزء من المزايا الجبائية، مع إدخال مرونة ذكية، تمثلت في تخفيف إلزام إعادة استثمار 30 بالمائة من المبالغ الموافقة للإعفاءات، مع إتاحة إمكانية توجيه هذه الأموال نحو الشركات الناشئة أو الحاضنات، إضافة إلى إعفاء حالات محددة من هذا الإلزام.
تحويل التحفيزات إلى رأس مال حقيقي
وأوضح الخبير أن هذا الترتيب يحمل رسالة مالية واضحة، مفادها أن الدولة تسعى إلى تحويل المزايا الجبائية إلى رأسمال جديد داخل الدورة الاستثمارية، لا إلى مكاسب ظرفية دون أثر إنتاجي، مع فتح قنوات تمويل للاقتصاد الابتكاري، بما يضمن استمرارية الصلة بين الصناعة والابتكار.
وتتمثل الركيزة الخامسة في توسيع قدرة الدولة على التمويل المباشر للمشاريع ذات الأولوية عبر رأس المال العمومي. ففي قانون المالية 2025، تم رفع رأس المال الاجتماعي للصندوق الوطني للاستثمار من 150 مليار دينار إلى 275 مليار دينار، وفق الوثائق الرسمية، وهو ما يغير، حسب المتحدث، حجم الذراع التمويلية القادرة على الدخول في شراكات وتمويلات أكبر، خاصة في المشاريع الإنتاجية ذات الكلفة العالية، حيث لا يكفي الائتمان البنكي وحده.
وأشار هباش إلى أنه لا يمكن تطوير الإنتاج الوطني دون ربطه بالتصدير، لأن اقتصاد الحجم لا يتحقق في العديد من الفروع الصناعية إلا بالخروج إلى الأسواق الخارجية. ومن هنا تبرز الركيزة السادسة المتمثلة في الصندوق الخاص لترقية الصادرات، كآلية دعم مالي للمصدرين في نشاطات الترويج والتسويق الخارجي. وأكد أن هذه الآلية اكتسبت في 2025 بعدا عمليا أكبر عبر رقمنة مسار التعويضات، مع تحديد أجل أقصاه 1 ديسمبر 2025 لاستقبال الملفات.
الرقمنة للمتابعة وتشخيص الإشكاليات
وحسب الخبير الاقتصادي، يتجسد التحفيز المالي الذكي في كونه لا يقتصر على توفير الموارد، بل يقوم على بناء قنوات تنفيذ رقمية تقلص التأخير وتعزز الشفافية، ما يرفع قابلية استفادة المؤسسات المنتجة فعليا. وبموازاة ذلك، شرعت الدولة في معالجة إشكالية استيراد المواد الأولية ومدخلات الإنتاج، من خلال منصات رقمية مخصصة لتسيير ومتابعة هذه العمليات، وهو تحفيز مؤسسي ذو أثر مالي مباشر، لأنه يقلل عدم اليقين والتوقفات، ويحسن استقرار الإنتاج وتنافسية المؤسسة.
وبالعودة إلى السنوات الخمس الماضية، تُظهر عروض وزارة المالية حول قوانين المالية أن هذا التوجه كان حاضرا أيضا في ربط التحفيزات بالاستثمار المنتج وتجديد العتاد. فقد أشار عرض مشروع قانون المالية 2022 إلى تدابير تهدف إلى تأسيس نسيج اقتصادي منتج، من بينها إخضاع أرباح شركات الإنتاج لمعدلات مخفضة عندما توجه لاقتناء المعدات. ويؤكد المتحدث أن هذه الفلسفة تنسجم مع جوهر التحفيزات، القائم على تشجيع تحويل الربح إلى استثمار حقيقي بدل استهلاكه دون أثر إنتاجي.
موســم جنـي الثمــار
وخلص هباش إلى أن الجزائر اعتمدت تحفيزات متعددة المسارات لدعم المؤسسات المنتجة، من خلال تخفيض كلفة الاستثمار الأولي عبر الإعفاءات الجمركية وTVA، وتليين حاجز التمويل عبر الضمان العمومي، وخفض كلفة التشغيل، وضبط توجيه الامتيازات عبر قاعدة إعادة الاستثمار مع فتح المجال للاقتصاد الابتكاري، إلى جانب رفع قدرة التمويل العمومي المباشر، بما يؤسس لمرحلة جني ثمار الإصلاحات الاقتصادية.







