خارطـة الطّريـق..التّنميـة مرتبطــة بالاستقــرار والحوار والإصلاحـــات العميــقة
اعتلت الجزائر المشهد الإفريقي خلال عام 2025، وبرز الدور الجزائري كخيار استراتيجي قائم على التهدئة واحتواء الأزمات بدل تصديرها، والدفاع عن مقاربة إفريقية خالصة في معالجة الصراعات، في قارة لا تعرف الاستقرار، في ظل عودة لافتة لظاهرة الانقلابات العسكرية، وقامت أيضا بقيادة مبادرة تجريم الاستعمار في إفريقيا من قبل كافة دول القارة.
عام 2025..سجّل للجزائر نشاط دبلوماسي مكثف في إفريقيا، على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، وغلّبت دائما مبادئ التضامن والانخراط، ودعم كل ما من شأنه أن يعزّز عمل الاتحاد الإفريقي، ويقوّي التبادل البيني والتكامل الاقتصادي والتجاري بين دول القارة، في سبيل تحقيق أجندة 2063.
وفي ظرف 03 أشهر فقط، من سبتمبر إلى نهاية نوفمبر، احتضنت الجزائر مؤتمرات وتظاهرات قارية كبرى، خصّصت للاقتصاد والتجارة، والأمن والسلم (مسار وهران)، وتجريم الاستعمار والمطالبة بجبر الضرر، إلى جانب الصناعة الدوائية والمؤسسات الناشئة.
وبعدما أكّدت على ضرورة حشد كل مقوّمات التطور والنهضة لدى البلدان الإفريقية قصد التموقع في الخارطة الدولية قيد التشكل، حذّرت الجزائر من ثلاثة مخاطر رئيسية تهدّد الأمن والسلم في إفريقيا، وتتمثل في النشاط الإرهابي المتنامي في عدة مناطق، وعودة ظاهرة التغيرات غير الدستورية والتدخلات الأجنبية التي تفاقم الأزمات دون أن تحلّها.
وفي السّياق، تنطلق الجزائر في تعاطيها مع الأزمات والصراعات في إفريقيا من مبدأ سيادة الدول، حسبما جاء في تحليل الدكتور أحمد ميزاب، الذي يؤكّد على رفض التغيير غير الدستوري، وفي الوقت ذاته رفض الحلول الجاهزة والتدخلات الخارجية التي أثبتت التجربة أنها تعمق الأزمات بدل حلها.
في هذا الإطار، أبرز ميزاب في تصريح لـ «الشعب»، أنّ الانقلاب العسكري لم يعد شأنا داخليا محصور الأثر، بل تحول إلى عامل زعزعة استقرار إقليمي شامل، والأخطر من ذلك أن الانقلابات باتت، في كثير من الحالات، أداة تستغل ضمن صراعات النفوذ الدولية، حيث توظف هشاشة الأنظمة السياسية وضعف الجيوش الوطنية لاختراق القرار السيادي، وإعادة ترتيب موازين القوة، والتحكم في الموارد الاستراتيجية، وتؤدّي اقتصاديا إلى تعليق المشاريع الكبرى، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية، وتفاقم المديونية، وهو ما ينعكس مباشرة على الأوضاع الاجتماعية من بطالة، تراجع القدرة الشرائية واتّساع الفجوة بين الدولة والمجتمع.
في هذا المشهد المضطرب – يقول ميزاب – يبرز الدور الجزائري كخيار استراتيجي قائم على التهدئة واحتواء الأزمات بدل تصديرها، وعلى الدفاع عن مقاربة إفريقية خالصة في معالجة الصراعات، تنطلق من مبدأ سيادة الدول، ورفض التغيير غير الدستوري، وفي الوقت ذاته رفض الحلول الجاهزة والتدخلات الخارجية التي أثبتت التجربة أنها تعمّق الأزمات بدل حلّها.
ويرى ميزاب أنّ الجزائر، بحكم تجربتها التاريخية ومعرفتها الدقيقة بتعقيدات الفضاء الإفريقي، تدفع باستمرار نحو أولوية الحوار السياسي الداخلي، وتعتبر أنّ معالجة أسباب الانقلابات تمر حتما عبر إصلاحات مؤسّساتية حقيقية، وإعادة بناء الثّقة بين الدولة والمجتمع، وإشراك الفاعلين السياسيّين والاجتماعيّين في صياغة حلول وطنية جامعة، بعيدا عن منطق الإقصاء أو الحسم بالقوة، وأضاف أنّ الخطاب الجزائري في المحافل الإفريقية والدولية، شكل عنصر اتّزان في بيئة يغلب عليها منطق العقوبات والاصطفافات الحادّة، حيث ترافع الجزائر بوضوح لصالح نبذ العنف، واحترام الشرعية، وتغليب مسارات الوساطة والمصالحة، مؤكدة أن معاقبة الشعوب أو عزل الدول لا يؤدي إلى استعادة الاستقرار، بل يفتح المجال أمام مزيد من التطرف والتدويل الخطير للأزمات.
ويعتقد ميزاب أنّ هذا الترافع لم يكن خطابا مبدئيا فحسب، بل ارتبط برؤية استراتيجية تعتبر أنّ الأمن والسلم في إفريقيا يشكّلان القاعدة الصلبة لأي مشروع تنموي، وأنّ الحديث عن الاندماج الاقتصادي، والبنى التحتية العابرة للحدود، والأمن الغذائي، يفقد معناه في ظل دول منهكة بانقلابات متكرّرة وصراعات لا نهاية لها، ومؤسسات ضعيفة، وقرار سيادي مخترق.
من منظور جزائري، أبرز ميزاب أنّه لا يمكن فصل الانقلابات عن فشل نماذج الحكم، ولا عن انسداد الأفق السياسي أمام فئات واسعة من الشباب، ولا عن استمرار أنماط التبعية الاقتصادية، وهي معطيات تجعل من الاستقرار مسألة سياسية بالدرجة الأولى، لا أمنية محضة، وتفرض انتقال القارة من إدارة الأزمات إلى معالجتها من الجذور.
بالنسبة للخبير الأمني، فإنّ الرّهان الحقيقي اليوم يكمن في بناء منظومة إفريقية قادرة على تحصين الدولة الوطنية، وتعزيز الحكم الرشيد، وفرض احترام الإرادة الشعبية، وهو رهان تدافع عنه الجزائر باعتباره شرطا لاستقلال القرار الإفريقي، وحاجزا أمام إعادة إنتاج الهيمنة بأدوات جديدة.
في هذا السياق، يكتسب الدور الجزائري بعده الاستراتيجي العميق، كما يشير ميزاب، ليس باعتباره وساطة ظرفية مرتبطة بأزمة عابرة أو ملف آني، بل بوصفه فعلا سياسيا واعيا يستند إلى رؤية متكاملة لمفهوم السلم والاستقرار في إفريقيا. فالجزائر لا تتحرّك من موقع ردّ الفعل، بل من موقع الفاعل الذي راكم تجربة تاريخية ودبلوماسية جعلته يدرك أن الحلول الأمنية السريعة لا تنتج سوى هدن هشّة، سرعان ما تنفجر من جديد.
ويقوم هذا الدور على إعادة الاعتبار لمنطق الدولة الوطنية والسيادة، باعتبارهما شرطين جوهريين لأي مسار استقرار حقيقي، فغياب الدولة أو تفكيكها تحت ضغط الانقلابات والتدخلات الخارجية، لم يؤدّ في التجربة الإفريقية إلا إلى تعميق الفوضى، واستنزاف الموارد، وتحويل المجتمعات إلى ساحات صراع مفتوحة. ومن هنا، تدفع الجزائر، وفق هذا التصور، نحو مقاربة تعالج جذور الأزمات بدل الاكتفاء بإدارة نتائجها، وتعيد للدولة الإفريقية دورها كإطار ضامن للأمن والتنمية معا.
وفي هذا الأفق، يتجاوز الرّهان الجزائري مجرّد تسوية النزاعات إلى بناء إفريقيا مستقرّة ومتماسكة، قادرة على تحويل ثرواتها الطبيعية وإمكاناتها البشرية إلى تنمية فعلية تخدم شعوبها، لا النخب العابرة ولا القوى الخارجية، فالسّلم، في هذا المنظور، ليس غاية أخلاقية مجرّدة، بل شرطا عمليا للتّحرّر من دوّامة الانقلابات وعدم الاستقرار، والانخراط في مسار تنموي يضع القارّة على سكّة السّيادة الحقيقية والاختيار المستقل.





