التلاحم الوطني خيار استراتيجي لمواجهة الضغوط والتحديات
اسلوك باريس يكشف عن أزمـة عميقة في الرؤية الفرنسيـة
اعتبر خبير الشؤون الأمنية، الدكتور أحمد ميزاب، أن الجزائر لم تحبط كيد «كهان الفتنة» بالقوة وحدها، وإنما بالوعي وبوضوح الأدوار وبالثقة المتبادلة بين مؤسسات الدولة والمواطن، فهذا التلاحم – يقول ميزاب – عنوان قوة الدولة الجزائرية.
أبرز الخبير ميزاب في تصريح لـ»الشعب»، أن الجزائر تتحرك اليوم في محيط إقليمي ودولي شديد الاضطراب، يشهد تغير موازين القوة، تعدد بؤر الصراع، وتحول الحروب من المواجهة المباشرة إلى الاستهداف غير المباشر عبر الإعلام والاقتصاد والضغط النفسي.
في هذا السياق، أكد الخبير ميزاب، أن الجزائر لم تكن يوما خارج دائرة الاستهداف، بل ظلت هدفا دائما لمحاولات ضرب استقرارها وإحداث تصدعات في بنيتها تمهيدا لإضعاف الدولة، لافتا إلى أن محاولات المساس بالجزائر، لا تنطلق من فراغ، فهناك أطراف خارجية تنزعج من استقلال القرار الوطني، وأطراف داخلية هامشية تراهن على الفوضى كمدخل للتموقع السياسي.
وقال ميزاب إن الأدوات تتغير، غير أن الهدف واحد، وهو تفكيك الثقة بين الجيش والشعب، ولقد اصطدمت محاولات النيل من الجزائريين بالتلاحم الوطني الحقيقي بما هو نتيجة مسار طويل من التجربة والخبرة التاريخية، وذكّر بأن الجزائريين دفعوا ثمنا باهظا عندما اهتز هذا التوازن في الماضي، لهذا أصبح الحفاظ عليه اليوم خيارا واعيا وليس مجرد رد فعل مؤقت.
وأكد محدثنا أن الجيش الوطني الشعبي يعد الركيزة الأساسية لمواجهة كل ما يحاك في الدهاليز المظلمة، فالجيش مؤسسة جمهورية ذات عقيدة دفاعية واضحة، تلتزم بحدودها الدستورية، وتحمي السيادة دون انخراط في الصراعات السياسية أو الحسابات الضيقة، ويرى ميزاب أن هذا الانضباط المؤسسي هو الذي قطع الطريق أمام كل محاولات الاستفزاز، وأفشل رهانات التشويه والتحريض، كما عزز ثقة المواطن في جيشه باعتباره درعا واقيا للوطن.أضاف ميزاب أن الدولة الجزائرية عملت على تحصين الجبهة الداخلية، عبر تثبيت المؤسسات، وتفعيل القانون، ومواجهة حملات التضليل بالحقيقة والشفافية، كما سعت إلى معالجة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي تستغل عادة كوقود للفوضى، وكان الرهان دائما – يواصل ميزاب – تقليص الهشاشة وسد الثغرات، ومنع انتقال «التوتر» من الهامش إلى العمق.
وقال ميزاب إن الشعب الجزائري شكل الحلقة الحاسمة في هذا التلاحم، حيث ارتفع مستوى الوعي، والذاكرة الوطنية ما تزال حاضرة، في إشارة إلى تجربة العشرية السوداء التي خلقت مناعة جماعية ضد دعوات العنف والانقسام؛ لهذا – يؤكد ميزاب – فشلت محاولات التعبئة السريعة، وفقد الخطاب التحريضي قدرته على التأثير، إضافة إلى أن المواطن أصبح يميز بين النقد المسؤول ومحاولات الهدم.
بالنسبة للخبير الأمني ميزاب، فإن الاستفزازات التي تعرضت إليها الجزائر «كانت متعددة المستويات، إعلامية، سياسية، وأحيانا أمنية، لكن الرد لم يكن انفعاليا، بل كان عقلانيا متدرجا، قائما على التماسك الداخلي، وعلى العمل الهادئ طويل النفس». هذا النهج الذي اعتمدته الدولة – يواصل ميزاب – حرم الخصوم من أهم أوراق الضغط، وحول محاولاتهم إلى عبء عليهم لا مكسبا لهم، ذلك أن ما يميز التجربة الجزائرية في هذه المرحلة التي يقودها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، هو إدراكها أن الأمن لا يختزل في المقاربة الأمنية، بل هو مفهوم شامل سياسي واقتصادي، اجتماعي، وإعلامي؛ ولهذا كان «التلاحم» خط الدفاع الأول، وهو الضامن الحقيقي للاستقرار.ويرى ميزاب أن ما تقوم به باريس تجاه بعض الأطراف الهامشية المعادية للجزائر، يندرج ضمن منطق سياسي واضح، ليس دفاعا عن حرية تعبير، ولا انسجاما مع قيم معلنة، بل هو التوظيف الانتقائي لأدوات ضغط فقدت فعاليتها التقليدية، ويضيف محدثنا أن «هذا السلوك يعكس تحولا في طريقة إدارة العلاقة مع الجزائر، فحينما تتراجع القدرة على التأثير عبر القنوات الاقتصادية والسياسية الكلاسيكية، يتم اللجوء إلى الهامش، إلى الضجيج بدل النفوذ، وإلى الإرباك بدل الشراكة». ويرى ميزاب أن الرهان هنا ليس صناعة بديل سياسي، ولا خلق واقع جديد داخل الجزائر، فباريس تدرك أن هذه الأطراف بلا قاعدة اجتماعية، وبلا امتداد حقيقي داخل المجتمع، لكنها تراهن على عامل واحد هو «التشويش الإعلامي»، وإيصال رسالة مفادها أن الجزائر يمكن إزعاجها عند الحاجة.وفي رؤيته التحليلية، يرى ميزاب أن هذا السلوك يكشف في عمق الأزمة في الرؤية الفرنسية، فهي تجد صعوبة في تقبل جزائر ذات قرار سيادي مستقل، تتحرك وفق مصالحها، وترفض منطق التبعية أو الاصطفاف، كلما أعادت الجزائر ضبط علاقتها مع باريس على أساس الندية.واعتبر المتحدث عودة هذا النوع من الضغط غير المباشر إلى الواجهة، يكشف التناقض الصريح في الخطاب، حيث أن فرنسا تقدم نفسها كدولة رائدة في محاربة الإرهاب، وتشدد قوانينها داخليا، غير أنها تتساهل – في المقابل – مع أنشطة تمس أمن دول أخرى، وهذا التناقض لا يمكن تبريره – يقول ميزاب – يكشف أن المعايير ليست قانونية ولا أخلاقية، وإنما سياسية وانتقائية، فمن الناحية العملية، يرى ميزاب أن هذه المقاربة لا يمكن أن تحقق أي هدف، لأنها تصطدم بواقع جزائري مختلف عما تتصور بعض الدوائر التي لن تستوعب بعد أن المؤسسات الجزائرية قائمة، والوعي الوطني مرتفع، والمجتمع يرفض مشاريع التفكيك، ولا يمنح الشرعية لمن يتحرك خارج الإجماع الوطني.
وخلص الخبير ميزاب إلى أن الرد الجزائري كان مدروسا، هادئا، قائما على القانون، وعلى الشرعية الدولية، دون تهويل، ولا انجرار إلى معارك جانبية، وهذا أسلوب حرم «دعاة الفتن» من تمرير مشاريعهم الدنيئة، وأبقاهم في حجمهم الحقيقي، مؤكدا أن ما تقوم به باريس يعبّر عن ضيق الخيارات، خاصة وأن «الاستثمار في الهامش» لا يصنع سياسة ناجحة، ولا يغير مسار دولة، بل يكشف حدود الرهان نفسه، ويؤكد أن الجزائر باتت تتعامل مع هذه الأساليب بوعي وثقة وهدوء.





