أرشفة التّراث اللاّمادي ضرورة ثقافية والرّقمنة حليف جديد للذّاكرة
يرى البروفيسور العيد جلولي أنّ التّراث الشعبي المحكي يسهم إسهاما كبيرا وحاسما في الحفاظ على الذاكرة الوطنية والهوية الثقافية، رغم التحولات السريعة التي يشهدها العالم وبالأخص في مجال وسائل التواصل وعالم الميتافيرس.
اعتبر البروفيسور جلولي في تصريح لـ “الشعب”، أن هذا الإسهام يمكن تتبعه على عدة مستويات، لعل أولها تعزيز الهوية والانتماء، فهذا التراث المحكي يساعد في ترسيخ الإحساس بالانتماء من خلال تقديم نماذج وقيم متجذرة في البيئة المحلية، وإبراز خصوصية المجتمع في مقابل الثقافات الأخرى، وبناء روابط وجدانية بين الأجيال من خلال القصص التي يشتركون في معرفتها، كما يسهم – يقول محدثنا – في حفظ الذاكرة الجماعية بحكم أنه يشكل خزانا للخبرات والمواقف والقيم التي تراكمت عبر الأجيال، فالحكايات الشعبية، الأمثال، الأساطير، الأغاني الشفوية، كلها تحفظ تجارب الشعوب ورؤيتها للعالم، مما يجعلها سجلا غير مكتوب لذاكرة المجتمع.
وأكّد البروفيسور جلولي أنّ هذا التراث يسهم في إعادة بناء الماضي وفهم الحاضر، فمن خلال الحكايات الشعبية والأساطير، نستطيع فهم كيفية تفكير أجدادنا في الحياة والكون، ونظرتهم للأخلاق، البطولة، الشجاعة، العدل، فهذا الفهم يساعد الحاضر على قراءة الماضي بطريقة نقدية وواعية، ويمنح الهوية الثقافية جذورا قوية.
وأشار البروفيسور جلولي إلى أنّ التراث الشعبي المحكي يلعب دورا مهما في مقاومة طمس الهوية في ظل العولمة، وفي عالم يشهد تزايدا في الثقافة الرقمية المعولمة، وهذا التراث يقوم بدور أساس في مقاومة التجانس الثقافي الذي قد يذيب الخصوصيات المحلية، مانحا المجتمعات موارد رمزية تعزّز استقلالها الثقافي.
ويرى محدثنا أنّ التراث المحكي يسهم في دعم الإبداع والعطاء الفني المعاصر، إذ تستلهم العديد من الكتب والأفلام والعروض المسرحية والرسوم المتحركة عناصرها من التراث المحكي، فيتحول التراث إلى رافعة إبداعية تعيد إنتاج الهوية في صور جديدة قادرة على التواصل مع العالم.
وأبرز محدثنا دور التراث في تقوية الروابط الاجتماعية من خلال جلسات الحكي والمهرجانات الشعبية والأمسيات التراثية، مؤكدا أنها لا تمثل سردا للقصص وحسب، وإنما هي لحظات تواصُلٍ حيٍّ تعيد إحياء العلاقات بين الناس وترسخ استمرارية المجتمع عبر الزمن.
وعن كيفية الحفاظ على التراث المحكي في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها العالم اليوم، يوضّح البروفيسور جلولي أن هذا التحدي، وإن بدا معقّدا، إلا أن مواجهته ممكنة من خلال رؤية إستراتيجية تقوم أولا على التوثيق، باعتباره الخطوة الأولى نحو الإنقاذ من التلاشي، وأشار – في هذا الصدد – إلى ضرورة اعتماد مقاربة متعددة الوسائط تجمع بين التدوين الورقي وأدوات العصر، عبر تسجيل الحكايات والقصص الشعبية بالصوت والصورة والحفاظ على خصوصية الأداء الشفوي الذي يمثل روح الحكاية وسحرها، وأضاف أن التحول الرقمي ضرورة ثقافية وليس خيارا ترفيهيا، إذ يسمح بتسجيل الروايات الشفوية بدقة عالية، وإتاحتها على منصات رقمية مفتوحة الوصول تشكل جسرا بين الراوي والجمهور، وتمنح الباحثين والمهتمين مادة أصلية قابلة للدراسة والإحياء.
ويؤكّد البروفيسور أنّ إنشاء أرشيفات وطنية ومحلية للتراث اللامادي بات مطلبا ملحّا، من خلال أرشيفات تضم الحكايات والأهازيج والأمثال والمواويل والطقوس المرتبطة بها، مع توفير بيئة بحثية قادرة على استثمار هذا المحتوى في مجالات المعرفة والإبداع، كما يرى أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي تمثل نقلة نوعية في هذا المجال، من خلال توظيف تقنيات التعرف الصوتي واللغوي لتفريغ الروايات آليا وتصنيفها زمنيا وجغرافيا وموضوعيا، وفهرستها بطريقة تسهّل البحث فيها والوصول إليها، وتفتح المجال أمام إنتاج تطبيقات تعليمية وثقافية، تحفظ الذاكرة وتمنح التراث المحكي حياة جديدة تتناسب مع ذائقة الأجيال الصاعدة، ومن خلال استغلال التعليم ونقل التراث عبره بإدراج التراث المحكي ضمن المناهج التعليمية لتعريف الشباب بأسلافهم وثقافتهم، وإدماج الحكاية الشعبية والأمثال والأساطير المحلية في الأنشطة المدرسية، وتشجيع ورشات السرد الشفوي مع رواة كبار لنقل المهارة إلى الأجيال الجديدة، كما يمكن إدماجها – يقول محدثنا – عبر استغلال المهرجانات والفعاليات الثقافية، “وذلك بتنظيم مهرجانات تحتفي بالتراث المحكي، ما يساعد على جذب الزوار وزيادة الوعي الثقافي والتعاون مع المجتمع، من خلال إشراك المجتمع المحلي في حفظ وترويج التراث المحكي عبر ورشات عمل أو فعاليات جماعية، بالإضافة إلى دعم الفنانين والرواة، وذلك عبر تقديم الدعم المادي والمعنوي للممارسين الذين يحافظون على الروايات الشعبية ويضمنون استمراريتها.







