الجزائر المنتصرة.. من الشرعية التاريخية إلى شرعية الإنجاز
وجّه الرّئيس السابق لمجلس الأمة، المجاهد صالح قوجيل، رسالة إلى المشاركين بالمنتدى الثالث للشباب، والقائمين عليه، هذا نصّها:
كان يَسُرّني، ويُمنّيني القلب قبل اللّسان، أن أكون بينكم اليوم حضورًا لا خطابًا، في هذه الفعالية الوطنية التي تحتضنها بسكرة، مدينة العمق التاريخي والامتداد الحضاري، مدينة سيدي زرزور، قسّام الوديان، التي تختصر في جغرافيتها معنى الصبر، وفي تاريخها روح المقاومة، وفي إنسانها أصالة الجزائر.. (بسكرة سكرة، مدينة سيدي زرزور، قسّام الوديان).
غير أنّ طارئًا حال دون ذلك، فحضرتُكم بالكلمة، لأنّ ما يجمعنا أكبر من المسافات، وأبقى من الظرف، وأعمق من الشّكل.
أشارككم اليوم، في هذا المنتدى الذي يحمل من اسمه قدره، لا كضيف شرف، بل كشاهد على قرنٍ من التحوّلات، ووارثٍ لذاكرة أمّة، ومؤتمنٍ على كلمة صادقة تُسلَّم لجيل القيادة القادم.
أخاطبكم بلسان مجاهدٍ عرف معنى أن يولد الوطن من رحم المعاناة، وبعقل رجل دولة أدرك أنّ الاستقلال ليس نهاية الطريق، بل بدايته، وبقلب جزائري يؤمن أنّ الشباب حين يُحسن الفهم، يصنع الفعل، وحين يُحسن الفعل، يغيّر مجرى التاريخ.
أيها الشباب..
إنّ الجزائر التي نجتمع اليوم باسمها، لم تكن يومًا صدفة جغرافيا، ولا طارئة تاريخ.
هي فكرة قبل أن تكون دولة، وقضية قبل أن تكون مؤسّسات، وثورة قيم قبل أن تكون ثورة سلاح.
لقد كان جيل نوفمبر جيل الوصية الكبرى:
أن تكون الجزائر حرّة، موحّدة، سيّدة قرارها، عصيّة على الاختراق.
وكتب هذه الوصية بالدم، لا بالحبر، وبالتضحية، لا بالمساومة، لكن التاريخ، يا أبنائي، لا يكتمل بجيل واحد، وما لم يُستكمل البناء، تتحوّل التضحيات إلى ذكرى، وتفقد الذاكرة وظيفتها.
ومن هنا، فإنكم أنتم جيل المهمة الثانية: مهمة تحويل الشرعية التاريخية إلى شرعية إنجاز، ومهمة ترجمة الثورة من ذاكرة إلى مشروع دولة، ومهمة حماية السّيادة لا فقط من الخارج، بل من الوهن الداخلي، ومن التراخي، ومن الرّداءة.
أيها القادة الشّباب،
لقد تغيّر العالم، ولم تعد الحروب تُخاض فقط في الجبهات، بل في الاقتصاد، وفي المعرفة، وفي الإعلام، وفي الوعي الجمعي.
والجزائر اليوم، وهي تدخل مرحلة جديدة من تاريخها، لا تطلب منكم الحنين، بل البصيرة، ولا تطلب منكم التقديس، بل التطوير، ولا تطلب منكم الصمت، بل المسؤولية.
والمسؤولية، كما أفهمها، ليست تقييدًا للكلمة ولا خوفًا من الرأي، بل وعيٌ بوزن ما نقول وأثر ما ننشر، فنحن مع حرية التعبير.. لا حرية التهريج.. مع الكلمة التي تبني ولا تدمّر، وتُنبّه ولا تُضلّل، وتختلف بوعي ولا تفتعل العبث باسم الجرأة.
إنّ الجزائر تمتلك من المقومات ما يجعلها دولة وازنة لا تابعة.. تاريخ نضالي يمنحها الشرعية، شعبًا شابًا يمنحها الطاقة، موارد طبيعية تمنحها الإمكان، وموقعًا استراتيجيًا يمنحها الدور، لكنّ كل هذه المقومات، إن لم تحملها عقولٌ واعية، ونخبٌ نظيفة، وقيادات شجاعة، تتحوّل من فرص إلى أعباء.
وهنا، أقولها بوضوح المجاهد الذي لا يراوغ:
لا مستقبل لجزائر قوية دون شباب قوي في وعيه، نزيه في سلوكه، صلب في انتمائه، عصري في أدواته.
أبنائي وبناتي،
إنّ الرؤية التي يقودها اليوم السيد عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية، ليست مجرّد برنامج ظرفي، بل هي إرادة استعادة الدولة لروحها الاجتماعية، ولسيادتها الاقتصادية، ولمركزية المواطن في القرار العمومي.
هي رؤية تُعيد الاعتبار للعمل، وتجعل من الشباب شريكًا لا زينة خطاب، وتربط بين الوفاء لرسالة نوفمبر، ومتطلّبات عالم شديد التنافس.
لكن الرؤى، مهما سمت، لا تُجسَّد إلا برجال ونساء يؤمنون بها، وأنتم مدعوّون لا لتأييدها من المدرّجات، بل لحملها في الميدان، وفي الإدارة، وفي الاقتصاد، وفي المجتمع، وفي السياسة بمعناها النبيل.
أيها الشباب القادة،
دعوني أضع بين أيديكم وصايا من عصارة وتجربة حياة:
– اقرؤوا التاريخ لتتحرّروا منه، لا لتسجنوا فيه.
– اعلموا، وتعلّموا، وعلّموا، واغرسوا في كل الأجيال الحاضرة والقادمة أنّ الاستعمار مجرم أجرم في حقّ الجزائريات والجزائريّين..
– كونوا وطنيّين بلا تعصّب، ومنفتحين بلا ذوبان.
– تفتّحوا على العالم ولتكن إفريقيا عرينكم..
– مارسوا السّياسة كخدمة، لا كغنيمة.
– اجعلوا من الدولة إطارًا للإصلاح، لا هدفًا للهدم.
– واختلفوا، نعم.. ولكن داخل الجزائر، لا عليها.
تذكّروا دائمًا:
أنّ أخطر ما يهدّد الأوطان ليس المعارضة، بل الفراغ، وليس النقد، بل العبث، وليس الجرأة، بل انعدام الحكمة.
أبنائي وبناتي،
إنّ منتدى قادة شباب الجزائر ليس تظاهرة عابرة، بل هو مختبر الوعي الوطني الجديد، ومشتل النخب التي ستحمل المشعل حين يتقدّم الزمن، وتتبدّل المواقع.
وأنا، وقد أدركت من العمر عتيّا، أقول لكم بطمأنينة من يصبّ ماء حكمة السنين:
إنّ الجزائر بخير ما دام فيها شباب يسأل بعمق، ويفكّر بصدق، ويعمل بإخلاص.
حفظ الله الجزائر، وحفظ شبابها، وجعل منكم قادة لا تستهلكهم اللّحظة.. بل يصنعون الزمن.
تحيا الجزائر
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار




