كان عام 2025 موعدا مع فعاليات الطبعة الـ28 لصالون الجزائر الدولي للكتاب، وهو الحدث الذي بات بمثابة التظاهرة الثقافية الأهم في المشهد الثقافي والفكري الوطني. وقد رسّخ “سيلا” مكانة الكتاب في الوعي الجماعي الجزائري، بما يمتاز به من مشاركة قوية وتوافد جماهيري كبير. وفي هذا الصدد، أكدت الجهات الوصية، ممثلة في وزيرة الثقافة والفنون، أن الصالون يعكس رؤية الدولة في جعل القراءة فعلا وطنيا دائما وممارسة حضارية.
تحت شعار “الكتاب ملتقى الثقافات”، وبرعاية من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، انتظمت فعاليات الطبعة الـ28 لصالون الجزائر الدولي للكتاب، التي شهدت مشاركة 1254 دار نشر من 49 دولة، من بينها موريتانيا باعتبارها ضيف شرف الطبعة.
مكانة الكتاب والمعرفة
شكّل الصالون الدّولي للكتاب، وما يزال، “نظرة الدولة الجزائرية نحو الثقافة والفنون، فهو مرجعية مهمة لفهم المكانة التأسيسية للثقافة في منظور الجزائر، وتعبير صريح عن الوعي المشترك لممارسة المواطنة وتجلّيها في مختلف أبعادها بما فيها في الفضاء الثقافي الجماهيري، ولعلّ هذا الموعد هو واجهة للانسجام المجتمعي الجزائري المتأصل”، هو ما أكدته وزيرة الثقافة والفنون، مليكة بن دودة، في كلمتها الخاصة التي نشرت على موقع التظاهرة.
وأضافت الوزيرة بأن “سيلا” فرض نفسه كأهم حدث ثقافي في البلاد، وهو “مؤشر هام لفهم مكانة الكتاب لدى الجزائريين، حيث يتوافد الملايين من المدن الداخلية سعيا وراء العناوين التي تشغلهم أو تلفتهم”، مؤكدة أن فعل القراءة “فعل حر، لا يمكن أن يُحرس أو يراقب، وهو فعل حضاري، ومهما كان التوجّه والنوع القرائي، فهو خطوة نحو إعمال العقل ومسعى نحو الحكمة، وحين تتحول القراءة إلى احتفال كبير في صالون الجزائر الدولي للكتاب، فإن هذا الحفل هو استكمال لمجريات سنة كاملة من التحفيز على القراءة واستضافة فعالياتها، بإشراك النوادي والمشتغلين على الترويج للكتاب، من ناشرين ومؤلفين ومكتبيين، وبمساهمة كبيرة من مؤسسات وزارة الثقافة والفنون، وخاصة مكتبات المطالعة العمومية، وبهذا التكافل المعرفي سيكون الكتاب في وضع أفضل كل سنة.”
وتعتبر الوزيرة الكتاب العتبة الأولى للمعرفة وبوابة الثقافة، وترى أن أي نهضة لأي مجتمع لا تكون خارج هذا الإطار المعرفي الجامع، مع وجوب الانتباه إلى ضرورة التكيف مع تطورات عالم الكتاب، واستيعاب النشر وتحولاته وتحدياته الرقمية، وولوج “هذا المحيط المتسارع بأذكى الطرق مواكبة لجمهور القراء من الجيل الجديد”.
كما أشارت وزيرة الثقافة والفنون إلى الاحتفاء بضيف الشرف، موريتانيا الشقيقة، “وبمحمولها الثقافي وتقاطعاته الساحرة مع الثقافة الجزائرية، وإذا كان علينا من واجب بعد الترحيب بهم في وطنهم، فإنه منح ثقافة هذا البلد الساحر مساحة تليق به، والتعريف بإبداعات أهل موريتانيا، والاحتفاء بهم”.
أما في كلمتها خلال حفل اختتام التظاهرة، أكدت بن دودة أن هذه الطبعة تميزت بحضور استثنائي وبمحتوى فكري وثقافي غني، مضيفة أن الصالون أعطى “صورة ناصعة لجزائر الثقافة، الجزائر التي تقرأ وتفكر وتتحاور”.
وبخصوص الإقبال القياسي للجمهور، قالت الوزيرة إنها “أرقام لا تعبّر فقط عن نجاح التظاهرة، بل تجسّد تعطش مجتمع بأسره للمعرفة، ومكانة الكتاب في وجدان الأمة الجزائرية”، مؤكدة على أن “مشروع القراءة ليس حدثا موسميا، وإنما مسار وطني دائم نعمل على ترسيخه من خلال رؤية طموحة وشاملة تهدف إلى جعل القراءة ممارسة يومية في حياة الجزائريين”.
العربية.. والذكاء الاصطناعي
وكعادته، كان المجلس الأعلى للغة العربية حاضرا، ليس فقط بإصداراته المتنوعة، بل أيضا من خلال ندوة “رقمنة معلمة المخطوطات الجزائرية، استعمال الذكاء الاصطناعي في صناعة المعاجم”، التي أبرزت إستراتيجية المجلس وجهوده في مجال تطوير ونشر اللغة العربية، وكذا استعمال الذكاء الاصطناعي في صناعة المعاجم ورقمنة المخطوطات الجزائرية.
وتطرق رئيس المجلس، البروفيسور صالح بلعيد، إلى “مختلف برامج ومشاريع المجلس الرامية إلى تطوير اللغة العربية في مختلف الميادين كالتربية والإعلام والإدارة”، موضحا أهمية “توظيف الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة في صناعة المعاجم ورقمنة المخطوطات والدمج بين الصناعة اللغوية والبرمجيات الإلكترونية لأجل استغلال عالم الرقمنة في تفعيل مكانة اللغة العربية”.
واستعرض بلعيد تجربة المجلس في الاعتماد على البرمجيات الذكية في إنجاز العديد من المشاريع، مؤكدا على “أهمية توظيف اللغة العربية في مجال الذكاء الاصطناعي”، ومعتبرا أيضا أن “اللغة العربية تواكب هذا التطور التكنولوجي من خلال وضع معاجم إلكترونية” و«تطوير برمجيات وتطبيقات تفاعلية بالذكاء الاصطناعي”. كما أبرز جهود المختصين في اللسانيات بالمجلس في وضع برامج وتطبيقات تعمل على خدمة اللغة العربية، مشدّدا على أن “المعاجم اللغوية الإلكترونية تعتبر من أهم الوسائط المعتمدة في حفظ الذاكرة اللغوية للأمة، بغية ترسيخ البعد الحضاري للغة العربية والتعريف بكنوزها”.
ترقية الثقافة الأمازيغية
من جهتها، شاركت المحافظة السامية للأمازيغية في “سيلا” بـ13 إصدارا جديدا من أصل 16 عنوانا مبرمجا ضمن خطتها للنشر إلى غاية نهاية سنة 2025”، مؤكدة بذلك “الوتيرة المنتظمة” لنشاط التأليف والنشر لديها، وهذا في إطار “التزامها الدائم بترقية اللغة والثقافة الأمازيغية”، حسب المحافظة، التي أوضحت أن مشاركتها في هذه الطبعة تندرج في إطار “استمرارية حضورها في هذا الموعد الثقافي منذ 17 عاما متتاليا، ما يعكس التزامها الدائم بترقية اللغة والثقافة الأمازيغية”.
وتشمل إصدارات المحافظة مجالات متنوعة كاللسانيات والأنثروبولوجيا والتراث والأدب والوسائط الرقمية، ما يعكس حيوية البحث والإبداع الأمازيغي.
وفي إطار برنامجها العلمي، نظّمت المحافظة ندوة بعنوان “التفاهم بين مختلف تنويعات اللغة الأمازيغية: مقاربة جديدة للتدريس والبحث”، بمشاركة مختصين في اللغة الأمازيغية، ناقشوا الأسس اللسانية والبيداغوجية والاجتماعية-اللغوية”، وهو ما يعد بمثابة “تأكيد على دعم البحث العلمي ونشر المعرفة وتعزيز الحوار بين مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية في إطار رؤية تقوم على الوحدة في التنوع اللغوي”.
وفي هذه الندوة، صرّح الأمين العام للمحافظة، سي الهاشمي عصاد، أن العلاقة بين اللغتين الوطنيتين هي “علاقة تكامل وإبداع متبادل” تبنى عليها الذاكرة الجماعية وهوية الشعب الجزائري.
مائوية بن هدوقة
وكان “سيلا” موعدا لإحياء مائوية ميلاد الروائي الراحل عبد الحميد بن هدوقة، من خلال تقديم قراءات لأعماله الإبداعية أجمعوا من خلالها على ضرورة استعادة إسهاماته الإبداعية بصفته كاتبا مؤسسا لفن الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية.. وفي ندوة بعنوان “كيف نقرأ عبد الحميد بن هدوقة”، قال أنيس بن هدوقة إن والده الذي وافته المنية في 1996، “ينتمي إلى جيل من الكتاب والمبدعين عايش محطات تاريخية هامة في تاريخ العالم وتاريخ الجزائر”، معتبرا روايته “ريح الجنوب” بمثابة “تحفة فنية تجلت فيها تجربة إنسانية حقيقية للكاتب وليست فقط نصا تأسيسيا”.
بوجدرة.. وفلسطين
نشير أيضا إلى حضور رشيد بوجدرة بكتابه الأخير “فلسطين حتى النخاع” في نسختيه العربية والفرنسية، وقال الروائي إن الكتابة عن معاناة الشعب الفلسطيني هو بمثابة “قضية وجودية” و«مسؤولية تجاه الفلسطينيين”.
واستعرض بوجدرة، خلال منصة خصصت له في “سيلا”، أسباب تأليف هذا الكتاب الذي يعبر فيه عن “كامل تضامنه وانحيازه للقضية الفلسطينية من منطلق أنها قضية وجودية ومسؤولية تجاه ما يحدث لهذا الشعب المقاوم”. وأوضح بوجدرة أن كتابه الجديد عبارة عن “سرد تفاصيل ما حدث في قطاع غزة”، مضيفا أن “ما عاشته فلسطين خلال هذه الفترة جعلني أعيش كوابيس مستمرة”، وأنه سيتقاسم مع القراء في هذا الكتاب “متابعته لهذا العدوان، من وجهة نظره، ليس كمتخصص وإنما كمتلقي يؤمن بأن فلسطين هي قضية وجودية بها نعيش وبها نحيا ولا يمكن التعامل معها بحياد”.
المقاومة والتحرّر
كثيرة هي الندوات واللقاءات التي تضمنها البرنامج الثقافي الثري للصالون، ما يجعل من ذكرها كلها أمرا مستعصيا، لذا سنختار هنا نموذجا عن المواضيع دائمة الحضور في التظاهرة. وكعادة “سيلا”، لم تغب ثيمة المقاومة وقضايا التحرّر العادلة عن التظاهرة، سواء من خلال العناوين العروضة أو النشاطات والندوات، والتي كان من بينها ندوة “دولة الأمير عبد القادر الجزائرية الحديثة، ميراث مستمر”، وفيها أكد الدكتور جمال يحياوي أن الأمير عبد القادر “شخصية تاريخية بارزة وقائد فذ وعبقري، أظهر شجاعة كبيرة في مقاومة الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي جعل صيته يتجاوز حدود الوطن حتى وصف بأنبل الرجال العرب، خلال القرن الـ19”.
فيما استعرضت ندوة أخرى بعنوان “قضايا التحرّر ونقد الاستعمار والاستعمار الجديد عند فرانز فانون” المسار النضالي والفكري لهذا المفكر والمناضل من أجل قضايا التحرّر، وكان من المشاركين فيها الصحفي والكاتب الأمريكي آدم شاتز، مؤلف سيرة ذاتية مكرسة لفرانز فانون.
وتناول المتدخلون موضوع العنف في مؤلفات فانون، مبرزين أن صاحب “المعذبون في الأرض” كان يندّد بالاستعمار والاستعمار الجديد من خلال تحليله لتأثيراتهما اللاإنسانية والمستلبة على الشعوب المستعمرة، وكذا استغلال العنف وترسيخ هيمنة نفسية وثقافية.





