طلبة فضّلوا الموت إلى جانب إخوانهم في جيش التحرير على الحياة دون معنى

19 ماي..محطة بـارزة في تـاريـخ الحـركة الـطلابـيـة

الدكتور محمد دبوب

يعتبر إضراب 19 ماي 1956 بداية رسمية لانخراط الطلبة الجزائريين في الثورة كمجموعة أو كهيئة تنظيمية، وقد تقرر القيام بالإضراب بسبب الظروف الداخلية والخارجية التي كانت تعيشها الجزائر والطلبة من طرف مكتب فرع الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين بالجزائر ليعمم عبر اللجنة المديرة للاتحاد على كل الجامعات الفرنسية. وكانت المواقف مختلفة ومتباينة من الإضراب، سواء ما تعلق منها بالمواقف الوطنية أو الفرنسية، كما كانت نتائجه متعددة على الطرفين الجزائري والفرنسي.

عاشت الجزائر خلال النصف الثاني من سنة 1955 وبداية سنة 1956 أحداثا مهمة وخطيرة فقد شن جيش التحرير الوطني بقيادة زيغود يوسف هجمات 20 أوت 1955 بالشمال القسنطيني، ونتج عن ذلك رد فعل استعماري عنيف في كل شكل إبادة جماعية للسكان الأبرياء، وتدميرا شاملا للقرى والمداشر، وكانت مناطق الجزائر بصفة عامة تعيش حالة ذعر وخوف يومية جراء السياسة الاستعمارية الاستئصالية ضد الشعب الجزائري، ومحاولتها إجهاض الثورة في بدايتها وإرهاب الشعب الجزائري حتى لا يحتضنها، ولم يسلم من هذه السياسة حتى رجالات العلم والدين.
ومن جانب آخر، كانت جبهة التحرير الوطني في هذه الفترة تحرز بعض الانتصارات، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، فقد التحق المركزيون وحزب الاتحاد الديمقراطي وجمعية العلماء المسلمين بجبهة التحرير الوطني. وكان صدى الثورة في الخارج قد بدأ يتصاعد، إذ حظيت الجزائر بتمثيل في مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز سنة 1955 بإندونيسيا، وتم تسجيل القضية الجزائرية في جلسة 30 سبتمبر 1955 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي الميدان العسكري كان جيش التحرير الوطني يكبد العدو الخسائر ويلحق به الهزائم، مما اضطر هذا الأخير إلى الاستنجاد بقواته من فرنسا ومن خارجها. وبدأت العمليات الحربية لجيش التحرير تمتد إلى مختلف أنحاء الجزائر، وأصبح يتحكم في مناطق كثيرة شبه محررة.
كل هذا الحضور للثورة التحريرية في داخل الوطن وخارجه، جعل تحمل مسؤولية تنظيم شؤون آلاف المواطنين في المجالات الأمنية والسياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية من واجباتها، بالإضافة إلى مهامها العسكرية التي عرفت هي الأخرى تطورا كميا ونوعيا يقتضي خبرة فنية للتحكم في المجالات العسكرية المختلفة كالإشارة والهندسة العسكرية والتخطيط والاستخبارات، وأصبحت الثورة أيضا في حاجة إلى وسائل دعائية داخلية وخارجية وإلى تنظيم إداري وسياسي جديد يتماشى ومتطلبات المرحلة، وكل هذه المهام كانت تحتاج إلى إطارات تقوم وتسهر على إنجاحها، وطبعا كانت تلك الإطارات موجودة في الجامعات والثانويات والمعاهدة.
أما داخل الجامعة فقد شهدت بداية سنة 1956 تدهورا في العلاقة بين الطلاب الجزائريين والطلاب الفرنسيين بسبب تعنت هؤلاء وتأييدهم للسياسة الاستعمارية الفرنسية، فبعدما كانت الجمعية العامة لطلبة الجزائر (AGEA) يشرف عليها مجموعة من الطلبة الأوروبيين المتفتحين على الحوار، استولى على قيادتها في شهر مارس 1956 عناصر متطرفة اتخذت من هذه الجمعية واجهة تتستر وراءها للقيام بأنشطة إرهابية تستهدف المعتدلين من الطلبة الأوربيين والأساتذة الأحرار وطبعا كل الطلبة المسلمين الجزائريين.
بالإضافة إلى ذلك، قام مجلس أساتذة جامعة الجزائر بإنشاء منظمة فاشية انضم إليها إلى جانب الأساتذة كل الطلبة الفرنسيين المتطرفين وسموها لجنة العمل الجامعية برئاسة الأستاذ بوسكي، وكان هدف هذه اللجنة المعلن هو الدفاع عن الجزائر الفرنسية ومحاربة الثورة ومسانديها، لكنها سرعان ما تحولت بفضل التواطؤ الذي كانت تحظى به لدى أجهزة الأمن والإدارة الاستعمارية إلى أداة ضغط وإرهاب تمارس العنف ووسائل الحرب النفسية على المعارضين لخططها الإجرامية من فرنسيين وطلبة جزائريين، مستعملة في نفس الوقت الترغيب والترهيب لإحباط معنوياتهم وتسخيرهم لإرادتها.
وقد قامت هذه اللجنة رفقة الجمعية العامة لطلبة الجزائر (AGE) بالتنديد بالإجراءات المتخذة من طرف الوزير المقيم لاكوست Lacoste بالسماح للفرنسيين المسلمين بالدخول إلى الوظيفة العامة، وأعلنا يوم 03 ماي 1956 في بيان لهما عن إضراب لا محدود عن الدروس وقام طلبتهما بإهانة الوزير لاكوست الذي كان رد فعله طرد وإبعاد الأستاذ بوسكي إلى فرنسا، وحل لجنته، إلا أن الجمعية العامة للطلبة وإن أوقفت الإضراب يوم 11 ماي 1956، فإنها توجهت بنداء إلى الطلبة المنخرطين فيها تدعوهم فيه إلى إلغاء تأجيلاتهم العسكرية، وإعلان التعبئة العامة وتكوين فيلق جامعي خالص من الطلبة المتطوعين، ووصل الأمر بأعضائها إلى متابعة بعض المثقفين الفرنسيين من ذوي الرأي الآخر وطردهم كما حدث للأستاذ مندوز Mandous.
لكن الطلبة الجزائريين لم يكونوا ضحية زملائهم الطلبة الفرنسيين فقط، بل إن هيئة التدريس هي الأخرى كانت ضدهم أيضا، كما أن يد السلطات الاستعمارية لم تستثنهم، حيث تم اعتقال كل من عمارة رشيد محمد لونيس، أحمد تواتيو، مصطفى صابر في 07 ديسمبر 1955 بتهمة أنهم كانوا يوزعون مناشير تهدد بالموت لكل الجزائريين الذين يشاركون في الانتخابات التشريعية ليوم 02 جانفي 1956 وتعرضوا من جراء ذلك للتعذيب.
في ظل هذه الظروف التي كانت تعيشها الجزائر داخليا وخارجيا، وفي ظل الأوضاع المضطربة التي كان يعيشها الطلبة الجزائريون داخل الجامعة وخارجها، كل ذلك وغيره من الأحداث لم يكن ليبقى دون تأثير على عمل ونشاط الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (UGEMA) الذي لم يستطع الوفاء بوعوده في أن يكون حلقة وصل بين الثقافتين العربية الإسلامية والفرنسية الأوروبية التي تضمنها برنامجه.
وبعد مرور عام ونصف على اندلاع الثورة التحريرية، ما كان للطلبة الجزائريين أن يبقوا بمعزل عما يجري في بلادهم وأمام أعينهم، وإذا كانوا في البداية قد وقفوا على غرار باقي المتعلمين ونسبة كبيرة من الشعب الجزائري وأحزابه وجمعياته المختلفة موقفا فيه الحذر والتشكيك في حظوظ نجاح الثورة، خاصة بعد تجربة 08 ماي 1945 وما خلفته من تقتيل وتشريد لآلاف المواطنين الجزائريين فإنهم استمروا يتابعون مجرى الأحداث عن بعد بمزيد من التعاطف والقلق متستترين وراء واجب الدراسة وغياب أي أمر بالتجنيد صادر عن قيادة جبهة التحرير الوطني، باستثناء فئة قليلة من الطلبة التحقوا بصفة فردية بالثورة، غير أن زحف الثورة العارم والسريع جعل العديد منهم يشعرون بعدم الرضا عن النفس ويحاولون التخلي عن موقف المتفرج والانضمام إلى الثورة والمشاركة فيها.
وكان أول رد فعل الطلبة الجزائريين هو إعلان الإضراب عن الطعام وعن الدروس بالجزائر، يوم 20 جانفي 1956، احتجاجا على الاعتقالات التي مست بعض أعضاء الاتحاد (UGEMA)، وقد أصدر الطلبة بيانا أكدوا فيه بأن هذا الإضراب قد تمت الاستجابة له بصفة كاملة من طرف كل الطلبة الجزائريين وحتى من طرف بعض الطلبة الأوروبيين المناهضين للاستعمار.
وبفرنسا، قام طلبة الاتحاد العام (UGEMA) بإعلان يوم 20 جانفي 1956 أيضا يوما للإضراب عن الطعام في جامعات باريس والمقاطعات الأخرى، مصرحين بأن هذا الإضراب يندرج في إطار التضامن مع أصدقائهم الطلبة المعتقلين بالجزائر ومع كل الشعب الجزائري المضطهد. وفي تصريح صحفي بمقر الاتحاد (UGEMA) بباريس، أشار أحمد طالب الإبراهيمي رئيس الاتحاد العام (UGEMA) إلى حالة القلق التي يعيشها كل الطلبة الجزائريين في ظل الأحداث الخطيرة التي تشهدها الجزائر.
وكان المؤتمر الثاني للاتحاد (UGEMA)، المنعقد ما بين 24 و30 مارس 1956 بباريس فرصة ليؤكد فيه الطلبة المسلمون الجزائريون انحيازهم العلني إلى جبهة التحرير الوطني ووقوفهم إلى جانب نضال شعبهم بعد مطالبتهم في البيان الختامي للمؤتمر باستقلال الجزائر والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني وإطلاق سراح المعتقلين الوطنيين، وناقشوا أيضا في هذا المؤتمر موضوع تكوين ممرضين وممرضات من بين الطلبة الجزائريين في الطب والصيدلة قصد تزويد جيش التحرير بهم.
ولكن، كل هذه الأعمال التي قام بها الاتحاد العام للطبة المسلمين الجزائريين في مواجهة الظروف السابقة الذكر لم تكن لترتقي إلى مستوى ما تنتظره الثورة والشعب الجزائري من نخبته وكان لابد للحركة الطلابية أن تبرهن كقوة منظمة وفاعلة عن التزامها الثوري بصيغة أكثر راديكالية وأكثر قوة.

مــراحـل وحـيـثـيـات إعـلان الإضـراب

من أجل ذلك، اجتمع بعض أعضاء مكتب فرع الجزائر للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في شهر ماي 1956 وخاصة صالح بن القبي وعلاوة بن بعطوش والأمين خان ومحمد بغلي. وتناقشوا في موضوع إيجاد وسيلة تمكنهم من التعبير بصورة أكثر جدية عن مساندتهم للثورة والالتحام بها، خاصة في ظل الظروف التي كانت تعيشها الجزائر، والضغوطات التي كان يتعرض لها الطلبة الجزائريون بجامعة الجزائر واستحالة الدراسة معها، واستقر رأي هؤلاء في الأخير على ضرورة شن إضراب عام وشامل عن الدروس، ثم قرروا دعوة جميع الطلبة الجزائريين إلى جمعية عامة لمناقشة هذا القرار والتصويت عليه.
انعقدت الجمعية العامة لطلبة جامعة الجزائر، يوم 17 ماي 1956 بنادي الدكتور سعدان مقر حزب البيان، وكان من المفروض أن يترأس هذه الجمعية علاوة بن بعطوش، باعتباره عضوا باللجنة المديرة للاتحاد، إلا أنه اعتذر لأسباب حالت دون قيامه بذلك، فرجعت رئاسة الجمعية إلى الأمين خان.
في هذه الجمعية، طرحت قضايا عديدة للمناقشة شملت خصوصا الاضطهادات والاغتيالات التي يتعرض لها الطلبة والمثقفون من طرف السلطات الاستعمارية، ودرس المجتمعون دور الطالب الجزائري وموقفه من كل ذلك، يقول الأمين خان بأنه خلال هذه الجمعية ترك للطلبة حرية المناقشة والحوار، لكن بفضل تدخل العناصر المنتمية إلى التنظيم السري لجبهة التحرير الوطني تقبلت الأغلبية فكرة الإضراب العام عن الدروس، وما يترتب عنها من نتائج، ورغم ذلك لم تستطع الجمعية العامة حسم الأمر، خاصة بعد تدخل شخصيات غير طلابية حذرت من عواقب مقاطعة الجامعة والدراسة، وهو الأمر الذي استدعى عقد جمعية عامة ثانية في اليوم الموالي بدار الطلبة المسلمين لاروبير تسو La Robertsu، وقد حضرها بعض الطلبة الثانويين الذين كانوا أكثر تحمسا الإضراب.
وفي هذه الجمعية تم حسم الأمر والإعلان الرسمي عن الإضراب بإجماع أغلبية الطلبة الذين صوتوا على لائحة تدعو إلى الإضراب العام واللامحدود عن الدروس والامتحانات، ومقاطعة الجامعات الفرنسية والالتحاق بصفوف جيش وجبهة التحرير الوطني، وتم تحديد تاريخ 19 ماي 1956 يوما لبداية الإضراب، حيث تم توزيع بيان الإضراب الذي حرره الأمين خان ليلة 19 ماي 1956 بعدما تم طبعه وسحبه في نفس الليلة، ووزع على الطلبة في كل الأحياء الجامعية ببن عكنون، لاروبير تسوا وبمركز La Clarte لاكلارتي.
وقد تضمن النداء التاريخي للإضراب التذكير بالاغتيالات والمتابعات التي تعرض لها الطلبة من طرف السلطات الفرنسية وإمعانها في قمع الحريات وغلقها لباب الحوار، رافضين بالمناسبة الشهادات التي تمنحها فرنسا إليهم على كاهل جثت الأبرياء من أبناء وطنهم ورافضين كذلك مستقبلا سيكون على حطام المدن والقرى والمداشر الجزائرية الخالية من أهلها.
ومن هنا جاء إعلانهم النهائي على أنهم يفضلون الموت إلى جانب إخوانهم على الحياة بدون معنى.
ولقد تقرر أن يكون موعد الإضراب قبل إجراء امتحانات في آخر السنة لإعطاء صدى أوسع له، أما عن الأسباب فإن أجهزة القمع الاستعمارية كانت توفر العديد منها، وقد اختار الطلبة نبأ اغتيال الطالب فرحات حجاج بمدينة جيجل من طرف الشرطة الفرنسية التي كانت قد اختطفته منذ أزيد من شهرين ليكون سببا مباشرا لإعلان الإضراب.
وإذا كان مكتب فرع الاتحاد بالجزائر هو الذي أعلن الإضراب العام عن الدروس يوم 19 ماي 1956، فإنه بذلك قد تجاوز صلاحياته، لأن قرارا بهذه الخطورة يتعلق بالحركة الطلابية، كان من صلاحيات اللجنة المديرة للاتحاد (UGEMA).
يقول صالح بن القبي بأننا حاولنا الاتصال بالمسؤولين في باريس إلا أن صعوبة الاتصالات والمراقبة البوليسية حالت دون ذلك.
ولكن بعد وصول نبأ الإضراب إلى قيادة الاتحاد عن طريق الصحافة، تبنى هذا الأخير القرار، وقام بإصدار تصريح صحفي بواسطة لجنته المديرة يوم 25 ماي 1956 من باريس يؤيد ويزكي ما قام به المكتب فرع الجزائر، ويدعو كل الطلبة الجزائريين في كل الجامعات الفرنسية إلى الالتحاق بالإضراب، ابتداء من يوم الاثنين 28 ماي 1956.
وفي أكتوبر 1956، أصدرت قيادة جبهة التحرير الوطني أمرا بتمديد مفعول الإضراب ليشمل المدارس الابتدائية والثانوية، ابتداء من الدخول المدرسي 1957/1956 قصد تعميم عملية المقاطعة للثقافة الفرنسية، لكن..هل كان الطلبة الجزائريين متحمسين للإضراب؟!
 عندما اجتمع الطلبة الجزائريون لجامعة الجزائر في الجمعية العامة ليوم 17 ماي 1956 لدراسة مشروع الإضراب، لم يكونوا كلهم موافقين في البداية على هذا الطرح، فقد رفض بعض منهم هذا الأمر، مؤكدين على واجب الطالب المقدس إزاء الثورة ومستقبل الأمة المتمثل - في رأيهم - في المثابرة على التعليم قصد توفير الإطارات للدولة الجزائرية المستقلة، في حين برر بعضهم الآخر رفضه للقرار بأنه خارج تنظيميا عن صلاحيات مكتب فرع الجزائر إذ لا يجوز إصدار قرار بهذه الأهمية وبهذا الحجم إلا بواسطة الهيئة العليا للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين.
إلا أن هؤلاء المعارضين لم يكن لهم تأثير كبير على مجمل الطلبة خاصة في ظل الظروف التي كانت كلها تساعد على تبني مبدأ الإضراب، سواء التي كانت تعيشها الجزائر بصفة عامة أو التي كان يعيشها الطلبة بصفة خاصة، وبسبب تدخل طلبة مناضلين في جبهة التحرير الوطني استطاعوا إقناع أغلبية الطلبة على تزكية قرار الإضراب العام والشامل عن الدروس والتصويت عليه بالإجماع خلال الجمعية العامة ليوم 18 ماي 1956.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19781

العدد 19781

الأحد 25 ماي 2025
العدد19780

العدد19780

السبت 24 ماي 2025
العدد 19779

العدد 19779

الخميس 22 ماي 2025
العدد 19778

العدد 19778

الأربعاء 21 ماي 2025