القضـاء الاستعماري بالجزائـر من 1830 إلى 1870..

هكـذا وظّـف الاستعمار “العدل” في ترسيخ “الظُلم”..

سليمان.ج

 يتناول المقال الموسوم “القضاء القمعي الفرنسي في الجزائر في فترة الحكم العسكري 1830-1870” للكاتب نوي بن مبروك، ببراعة وتركيز، استراتيجية الإدارة الفرنسية في توظيف النظام القضائي كأداة لا غنى عنها للقمع والسيطرة على الجزائريين خلال فترة حرجة من تاريخهم. ولا يكتفي الكاتب بسرد وقائع تاريخية، بل يقدم تحليلاً نقدياً عميقاً للتطور المنهجي للتدخل الفرنسي في المحاكم الأهلية، وصولاً إلى دمجها في النظام القضائي الفرنسي، واستخدام المجالس الحربية والسلطات التأديبية كآليات مفصلية لفرض هيمنة استعمارية مطلقة.

يستهل الكاتب تحليله بوصف صورة القضاء في الجزائر عشية الاحتلال الفرنسي، مشيراً إلى “نقص علم وخبرة القضاة آنذاك، وبعدهم عن التخصص المطلوب لكل نوع من القضايا”. هذا الوصف يحمل إشارة ضمنية إلى تصور غربي لما يجب أن يكون عليه القضاء، وقد يُستخدم كذريعة لتبرير التدخل. ومع ذلك، لا يهمل الكاتب الإشارة إلى وجود بنية قضائية قائمة، حيث كانت النزاعات تُعالج من قبل شخصيات ذات نفوذ مثل الآغاوات والدايات. والأهم من ذلك، يبرز الكاتب التطور الملحوظ الذي شهده النظام القضائي في فترة حكم الأمير عبد القادر في “تخصيص قضاة للزواج والمواريث والنزاعات التجارية، مع التركيز على تسوية الخلافات وتنفيذ الأحكام المتعلقة بالتعويضات المادية”. هذه المعلومة بالغة الأهمية، إذ تدحض أي ادعاء بأن الجزائر كانت تفتقر إلى نظام قضائي فعّال، بل تؤكد وجود مساعٍ نحو تنظيم وتخصّص في مجال العدالة.

الاستعمار.. تحييد القضاء الأصيل

تُشكل معاهدة الاستسلام لعام 1830 نقطة محورية في تحليل بن مبروك. فبينما نصت هذه المعاهدة على “احترام القوانين والتقاليد المحلية، بما في ذلك القضاء الإسلامي”، سارعت الإدارة الفرنسية في الواقع إلى تأسيس قضاء خاص بها، وهو ما يؤكده مرسوم ملكي صدر في نفس العام بتأسيس محكمة في مدينة الجزائر.. هذا التناقض الصارخ بين الوعود المقطوعة على الورق والممارسات الفعلية على الأرض يمثل خرقاً واضحاً للعهود، ويكشف عن النوايا التوسعية منذ اللحظة الأولى.
ويُبرز بن مبروك أن الأمر الملكي الصادر في 10 أوت 1834، والذي قضى باختصاص المحاكم الأهلية في القضايا المدنية والجنائية، كان مجرد واجهة مؤقتة. فسرعان ما اتجهت “الأمور تسير نحو تجريد المحاكم الأهلية من صفتها وصلاحياتها”.. هذا التجريد لم يكن مجرد تقليص للمهام، بل كان عملية ممنهجة لتفريغ القضاء الإسلامي من مضمونه وسلطته. فقد تراجعت صلاحيات المحاكم الجنائية الإسلامية، وتغيرت طبيعة عقوباتها من “الإعدام إلى الغرامات والسجن والضرب بالعصا”، ما يشير إلى تحوّل في فلسفة العدالة، قبل أن يتم “سحب كل صلاحياتها بموجب الأمر الإمبراطوري سنة 1854”. بعد مراحل متتالية من التجريد تكشف عن خطة مدروسة لإضعاف القضاء المحلي وإخضاعه بشكل كامل.

القضاء الاستعماري .. أداة قمعية

النقطة الأكثر إثارة للقلق التي يركز عليها بن مبروك هي تحويل القضاء إلى أداة قمعية. فـ«دمج المحاكم الإسلامية في إطار القضاء الفرنسي” لم يكن يهدف إلى تحديثها أو تطويرها، بل إلى “جعل هذا القضاء وسيلة قمعية ضد الجزائريين”. ما يكشف عن الطبيعة المزدوجة للاستعمار، حيث يتظاهر بالتحديث بينما يسعى في الواقع إلى التحكم، فمنذ أوت 1834 تم سلب المحاكم المحلية استقلاليتها وجعلها خاضعة لسلطة تنفيذية استعمارية، وتم تشكيل “مجالس مساعدة للمحاكم الأهلية تضم قانونيين فرنسيين وأئمة مساجد متعاونين مع الإدارة الفرنسية” كان بمثابة غطاء شكلي لشرعنة التدخل الفرنسي وتطويع بعض الشخصيات الدينية لخدمة الأجندة الاستعمارية.
أما إتاحة الطعون والاستئنافات أمام المحاكم الفرنسية، فهي على الرغم من أنها تبدو إجراءً قانونياً طبيعياً، إلا أنها أدت في الواقع إلى “زيادة القضايا المرفوعة أمامها بشكل كبير”، مما وسّع من نطاق سيطرة القضاء الفرنسي على الجزائريين ودمجهم قسراً في نظام لا يخدم مصالحهم.

سلطة مُطلقة للاستعمار تحت ستار القانون

يُركز بن مبروك في مقاله بشكل خاص، على الدور المحوري للجيش الفرنسي في السيطرة على القضاء. ويوضّح أن العدالة الفرنسية بالجزائر كانت تابعة لوزارة الحربية الفرنسية حتى عام 1848، ما يعني أن القرارات القضائية كانت تتأثر بشكل مباشر بالأهداف العسكرية والسياسية للاحتلال. وقد تجلى ذلك في “سيطرة واسعة على القضاة وتعيينهم وعزلهم ومراقبة نشاطهم، ووضع قضاة المناطق العسكرية تحت إشراف مديري المكاتب العربية”. هذا الهيكل يبرز كيف أن القضاء لم يكن جهة مستقلة، بل كان ذراعاً للسلطة العسكرية.

ويُبرز الكاتب تسلط الحكام العسكريين ومديري المكاتب العربية، الذين “احتقروا بعض القضاة بحجة أن تأهيلهم في الجانب القانوني دون المستوى المطلوب”. هذه الحجة الواهية كانت مجرد ذريعة لفرض سيطرتهم، والتحكم في أجور القضاة، مما يفقدهم أي استقلالية أو كرامة، ويجعلهم أدوات طيّعة في يد المحتل.

المجالس الحربية.. أقصى درجات القمع

تُمثل المجالس الحربية والسلطات التأديبية الذروة في استخدام القضاء كأداة قمعية. فقد تأسست عام 1830 بصفة “أجهزة قضائية لمرافقة الجيش الفرنسي ومعاقبة أي نشاط ضد فرنسا أو مؤيديها”. هذا التعريف يوضّح بجلاء أن هذه المجالس لم تُنشأ لتحقيق العدالة، بل لفرض القانون العسكري الاستعماري. ويؤكد بن مبروك هذا الهدف من خلال اقتباسه لتصريح الحاكم العام الجنرال كلوزيل: “من المهم لسلامة وهدوء الجيش أن يحكم في الحالات التي يتضرّر فيها الشعب الفرنسي وممتلكاته من قبل سكان هذا البلد”. هذه المقولة تكشف جوهر المنظومة القضائية الاستعمارية: حماية مصالح المحتل.
 وقد أدت هذه السياسة إلى “تزايد عدد المحاكمات العسكرية، حيث ارتفعت نسبة الجزائريين المحاكمين من 3% إلى 30%”، مما يؤكد على استخدامها المكثف كأداة لفرض العقاب الجماعي والفردي.
أما السلطات التأديبية، فقد كانت تمثل قمة التعسف والظلم. فقد خططت لـ«تأسيس نظام عقابي من مؤسسات وإجراءات عقابية يتم تسليطها على الجزائريين”. ولم تقتصر هذه الإجراءات على المخالفات الفردية، بل امتدت لتشمل “العصيان أو أخطاء الزعماء الجزائريين أو حتى القضاة المسلمين الذين يرفضون مسايرة رجال القضاء الفرنسي وقوانينه”. الأسوأ من ذلك، أن هذه العقوبات لم تفرض على الأفراد فحسب، بل على “المجتمعات أيضاً، بمقتضى قانون التعميم في تحمل المسؤوليات الصادر سنة 1844”. هذا القانون هو مثال صارخ على الظلم الجماعي، حيث يتم تحميل مجتمعات بأكملها مسؤولية أفعال أفرادها، وهو ما يهدف إلى تفتيت التماسك الاجتماعي وإخضاع القبائل والعشائر.

اليد الطولى للسلطة العسكرية

يكشف بن مبروك عن مدى اتساع صلاحيات السلطة العسكرية في تنفيذ الأحكام وتطبيق العقوبات. لقد “منح الحاكم العام العسكري حرية كبيرة في اتخاذ القرارات، وفرض الغرامات ومصادرة الأملاك، واعتقال المقاتلين، والاستيلاء على ممتلكاتهم”. هذه الصلاحيات الواسعة، التي تتجاوز بكثير سلطات القضاء المدني، تؤكد أن الجيش كان هو صاحب الكلمة الفصل.
ويلعب مسؤولو المكاتب العربية دوراً حيوياً في هذا النظام، حيث كانوا “أول من يعلم بتحركات الجزائريين (الأهالي) ويصدرون أوامر الاعتقال والتحقيق”. هذا الدور المزدوج (الاستخباراتي والقضائي) يؤكد أن المكاتب العربية لم تكن مجرد إدارات مدنية، بل كانت عيون وأيادي المحتل في الداخل، تعمل على جمع المعلومات وتطبيق القمع.

قضاء نابليون الثالث.. تزيين القمع

رغم أن عهد نابليون الثالث شهد محاولة من قبل الأمير “جيروم نابليون” لجعل السلطات العسكرية المكلفة بالتأديب “أكثر انتظاماً وأقل تعسفاً”، إلا أن هذه المحاولة لم تغير جوهر القمع. فقد حددت لجان التأديب، وفقاً لمنشور وزاري عام 1868، مجموعة الجرائم التي يرتكبها السكان الأصليون، مع استبعاد المجالس الحربية من النظر فيها. ورغم أن هذا التعديل قد يبدو خطوة نحو تخفيف حدة القمع، إلا أنه في جوهره كان محاولة لتنظيم وتجميل نظام عقابي يفتقر إلى العدالة الحقيقية.
إن الإدارة الفرنسية سعت بشكل منهجي إلى “الاعتماد على سلطة القضاء ومؤسساته للسيطرة على الجزائريين، وإبعاد المؤسسات القضائية الأصلية، وفرض قضاء قمعي يفتقر إلى العدالة، مستعينة بالمجالس العسكرية والتأديبية”.
ويشير بن مبروك إلى أن الفترة ما بين 1841 و1870 شهدت “استقلالية نسبية للقضاء الفرنسي بالجزائر، ما أدى إلى تسلط المستوطنين الأوروبيين على المؤسسات القضائية”. وهذا تحول آخر في طبيعة القمع، حيث انتقل من السيطرة العسكرية المباشرة إلى هيمنة المستوطنين الذين استغلوا النظام القضائي لترسيخ نفوذهم ومصالحهم على حساب الجزائريين.
أما المقولة الختامية التي يوردها الكاتب، بأن “المؤلفين الجادين كشفوا عن الطبيعة غير القانونية تمامًا للعديد من الممارسات القمعية الفرنسية، حيث ذهب وزراء الحربية والحكام إلى حد اغتصاب صلاحيات المشرع السيادي، من خلال إنشاء محاكم حقيقية خاصة بهم”، فهي بمثابة حكم قاطع على الشرعية الزائفة التي حاول الاحتلال إضفاءها على ممارساته.
إن مقال نوي بن مبروك يقدم تحليلاً نقدياً قيماً يكشف عن الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويبرز كيف تم استخدام القانون الذي يفترض أن يكون ضامناً للعدل، ليصبح أداة للظلم والقمع.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025
العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025