حميـد شيخـي شاب جامعـي نجح في تحقيق حلمــه

مؤسسة ناشئة تُعيد للزيوت الأساسية مكانتها بالبليدة

أحمد حفاف

 عطور الشفة وبني مراد أرضت شغف جدة الملكة فيكتوريا

تشتهر مدينة البليدة بكثرة وتنوع النباتات الزهرية والعطرية المنتشرة على مساحة سلسلة الأطلس البليدي، ما جعل تقطير النباتات واستخلاص الزيوت الأساسية تبرز وتزدهر بالمنطقة منذ القدم، وهي اليوم تعرف انتعاشا لافتا بفضل اهتمام الشباب سيما الجامعيين الذين وجدوا في هذه المهنة دخلا وآفاقا واعدة والذهاب الى تأسيس مؤسسات ناشئة تنشط في هذا المجال.

شركة «حميد شيخي» لمواد التجميل المسجلة تحت اسم bioextapamal» «عينة من المؤسسات الناشئة التي تسير بخطى ثابتة كي تصبح رائدة في مجال تخصصها، وتحاول إعادة بعث صناعة الزيوت الأساسية والطبيعية التي عرفت بها ولاية البليدة في السابق، وتقوم بجهود جبارة للترويج لعلامتها في السوق، بحسب ما وقفت عليه مجلة التنمية المحلية الصادرة عن جريدة «الشعب».
تأسست هذه الشركة الناشئة في أكتوبر 2018 لصاحبها حميد شيخي وبتمويل الوكالة الوطنية لدعم المقاولاتية وبمرافقة محافظة الغابات لولاية، وبدأت في الإنتاج بمقرها المتواجد في بلدية وادي العلايق في شهر رمضان لعام 2020، وفي ظرف سنتين استطاعت أن تُنتج 40 نوعا من الزيوت الأساسية والنباتية، حتى أن حجم المادة الأولية التي تستخلص منها هذه الزيوت وصل أحيانا إلى 2 طن يوميا.
ورغم الخطوات الكبيرة التي قام بها المهندس في العلوم الزراعية حميد شيخي لتحقيق حلم الطفولة بالعمل في مجال استخلاص الزيوت من النباتات، فإنه يشعر بأن عملا كبيرا ينتظره لتطوير هذا المجال في ولاية البليدة من خلال إنتاج سلع ذات جودة لتكون البديل في السوق، ومن مسؤوليته توعية المواطن ليحمي استهلاكه في هذا المجال.
في مستودع يستأجره بـ 3 ملايين سنتيم شهريا، يٌزاول شيخي عمله باستخلاص أرقى وأجود الزيوت الأساسية والنباتية، حيث يستعمل في ذلك جهاز تقطير ومسخن للماء وبعض اللواحق، وكلها مصنعة محليا، وتساعده محافظة الغابات في توفير النباتات التي يقوم بتقطيرها مثل الكاليبتوس والشيح والخزامى.
في هذا السياق رد قائلا :» الزيت الأساسي هي ذلك الجزء العطري في النبات الطبي ولإنتاج واحد لتر منها نحتاج أحيانا لأطنان من النبات، فإنتاج كيلو غرام من الزيت الأساسي للضرو نقوم بتقطير 34 قنطارا من هذا النبات، والزيت النباتي أو الطبيعي غالبا ما يتم استخلاصه من البذور بطريقة تقليدية بعصره، أما الزيت الأساسي فيخرج من الأوراق والبذور بالتقطير ولديها قيمة علاجية وشفائية أكثر».

مستخلصات طبيعية للصحة والتجميل والاسترخاء

وتستعمل الزيوت الأساسية في ثلاثة مجالات، فمنها يتم تصنيع مكملات غذائية وحتى بعض الأدوية والمواد الصيدلانية، مما يبرز أهميتها في مجال الصحة، كما تستعمل في مجال صناعة مواد التجميل والعطور، فأرقى العطور وأغلاها تستعمل زيوت طبيعية وخالية من المواد الكيماوية.
 وحتى مساحيق التجميل الأخرى كأحمر الشفاه أو غسول الشعر تباع بأثمان باهظة إذا كانت مصنعة من الزيوت الأساسية، وهناك من يفضل استعمالها في مجال العناية الجسدية والراحة النفسية بمراكز التدليك والاسترخاء.
ويرغب شيخي في إدخال الزيوت الأساسية في مجال انتاج الأسمدة الطبيعية التي يضمن استعمالها فلاحة مستدامة ويحمي صحة الإنسان ويحقق التوزان الإيكولوجي، حيث يقول في هذا الصدد: «أنا كمهندس زارعي أقوم بأبحاث لإدخال استعمال الزيوت الأساسية في المعالجة البيولوجية للآفات التي قد تصيب المحاصيل، ونستطيع الوصول إلى منتوج بيولوجي كالبطاطا أو البرتقال أو أي غذاء، وذلك بهدف التخفيض من المواد المسرطنة».

حلم الصغر .. تجسد في الكبر

تحدث لنا شيخي عن مهنته، وقال بأن تنشئته في بيئة فلاحية نمّت فيه حب كل ما هو فلاحي خاصة وأنه ابن فلاح وتربى وسط حقول أشجار البرتقال، حتى أنه بعدما تحصل على شهادة البكالوريا أكمل دراسته الجامعية في تخصص العلوم الفلاحية والزراعية، وبعد تخرجه من جامعة سعد دحلب بالبليدة عمل في مجال الإدارة والتجارة بالقطاع الخاص، لكنه لم يجد راحته حتى عاد إلى مجال تخصصه وأنشأ مؤسسته لصناعة الزيوت.
وحول تجربته، أوضح قائلا:» العمل في هذا المجال هو حلمي منذ أن كنت صغيرا، ففي سنة 1998 كنت أعرف ما معنى الزيوت الأساسية والطبيعية»، وتابع: « عرفت هذه الصناعة عن طريق شخص كان يأتي إلينا ليشتري الكاليتوس بحكم أنهيسكن في الريف وهذه الأشجار متوفرة بكثرة، وأتذكر جيدا حينما كنت أجني 200 دينار مقابل سيارة إكسبراس مملوءة بالكاليتوس، وهذا السعر كان معتبرا» بالنسبة لي.
وأضاف: «ذات يوم سألته وقلت له يا عمي فيصل ماذا تفعل بهذا الكاليتوس، فكان رده مقتضبا: «لما تسأل كثيرا وأضاف نستخرج منه الدواء ثم ذهب دون أن يقدم جوابا شافيا، لكنه أدخل لي الفكرة بطريقة غير مباشرة ولم يعد بعدها...وبعد دراستي الجامعية تقربت من الميدان واكتشفت الفوائد الكثيرة للزيوت الأساسية «.

طريق النجاح لم يكن مفروشا بالورود

ولم يكن طريق حميد لتحقيقه حلمه مفروشا بالورود، بل اعترضته صعوبات وقام بمجهودات إلى أن وصل إلى مبتغاه، فكان صعبا عليه أن ينتقي أجهزة تقطير ممتازة إلا بعد مرحلة استكشاف قام لمعرفة كل التفاصيل المتعلقة بها، ولأجل ذلك استعان بالخبرة الأجنبية.
وفي الأخير اقتنى هذا الجهاز من شركة جزائرية تنشط في حي « السواكرية « في بلدية مفتاح قام بتصنيعه بحسب المواصفات التي اختارها بعد بحث معمق في المجال، وذلك بسعر تجاوز 700 مليون سنتيم، وهذا بعدما كان قريبا من اقتناء جهاز تقطير من إيطاليا.
وبسب عراقيل بيروقراطية تأخر البنك الجزائري الخارجي في دفع الأموال كي تتم عملية طبع القصاصات بمطبعة خاصة، فاضطر شيخي خلال الأشهر الأولى من عملية التسويق إلى تعبئة المنتوجات وطبع القصاصات التي تحمل علامة المنتوجات بطريقة تقليدية، ولهذا لم يجسد فكرة ممتازة لتسويق منتوجاته بعرضها في الصيدليات، بحسب تعبيره.
 ولأن المحل الذي يشتغل به مستأجر وصغير المساحة، يأمل في أن تمنحه وزارة الفلاحة رخصة لاستغلال المستودعات المهجورة في المزارع سواء التي بنيت في عهد الاستعمار الفرنسي أو التي شيدتها الجزائر بعد الاستقلال، وإذا اقتضى الأمر وفي هذا الإطار يُرحّب بإقامة شراكة بين القطاع الخاص.

مرافقة محافظة الغابات توفر المادة الأولية من النباتات

من الناحية القانونية، دعا شيخي إلى إصدار قوانين وتشريعات تمنع التجارة العشوائية للزيوت وتوفر حماية للثروة النباتية والغابية، ومن الضروري- بحسبه- السماح فقط للذين يملكون شهادات علمية بتأسيس شركات ناشطة في المجال، مشيرا إلى أن ترويج زيوت مغشوشة في السوق راجع إلى عدم تقييد المهنة، فمثلا- على حد قوله- يمكن لحرفي يملك معلومات نظرية بسيطة أن يستخرج سجلا تجاريا ويفتح محلا لبيع الزيوت، كما أن القوانين تلزم الناشطين في المجال بالاستغلال العقلاني للنباتات والحفاظ على ديمومتها وتكاثرها.   
ورغم الصعوبات فإن مرافقة محافظة الغابات لمؤسسة شيخي ذللت كل العراقيل، فهي من تضمن له الحصول على مختلف الأنواع النباتية والغابية، بمنحه رخصة استغلال حصص محددة بأصناف واضحة بعد إجراء مناقصة ويدفع مبلغا رمزيا مقابل ذلك.
وبسبب هذه العلاقة الوطيدة التي تجمعهما يفكر في تجسيد مشروع المزارع النموذجية في اطار الشراكة بين القطاع الخاص والعام في ميدان تنمية الغابات وحسن استغلالها، كما يسعى لإبرام اتفاقية مع محافظة السهوب، كي يستطيع فيما بعد استغلال نباتات طبية هامة جدا منتشرة في الأماكن شبه صحراوية مثل الجلفة والأغواط، كما توفر له الوكالة الوطنية لدعم المقاولاتية (ANADE ) دعما اعفاء من كل الضرائب خلال السنوات الأربع الأولى من النشاط.

هكذا يتم التسويق..  ومخلفات التقطير لا تضرّ بالبيئة

واختار حميد شيخي العلامة التجارية لمنتوجاته بعد تفكير عميق، حيث يشرح ماذا تعنيه العلامة المكتوبة باللغة الفرنسية «BIO EXTRAPAMAL «، ومعناها الجزائرية للاستخلاص البيولوجي للنباتات الطبية والعطرية، وقام بتسجيلها بالمعهد الوطني للملكية الفكرية، حيث اتبع في ذلك توجيهات مديرية التجارة لولاية البليدة.
ورغم استنفاذ كافة الإجراءات الإدارية لتأسيس شركته، فإن الأزمة الصحية العالمية بسبب فيروس كورونا والظروف التي صاحبتها لم تسمح لشيخي بالانطلاق في نشاطه حتى تاريخ 27 جويلية 2020، والذي افتتح بعده صفحة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي لتسويق منتوجاته والترويج لها، حيث يعرض المنتوجات وكل المعلومات الخاصة التي يرغب الزبائن في معرفتها.
وبعد مضي قرابة سنتين عن انطلاقتها في العمل، فإن مؤسسة شيخي تنتج ما يفوق 40 زيتا أساسيا وزيوت نباتية أخرى، مثل زيت الكاليتوس، البسباس البري، الخزامى، البرتقال المر، الشيح الأبيض، الصنوبر الحراجي، السرو، وزيت الضرو، وبأسعار في المتناول بالنظر إلى القيمة الغذائية والصحية لهذه المنتوجات.
وبخصوص مخلفات عمليات تقطير فهي تخرج على شكل مادة عضوية قابلة لتخصيب الأراضي يقول شيخي:»فبعد تحليل النباتات نستطيع استغلالها في تسميد الأراضي، وهذا ما نقوم به حاليا، حيث يأتي الينا بعض الفلاحين للحصول عليها»، وتابع بالقول: «عملية الإنتاج من بداياتها إلى نهايتها لا تضر بالبيئة».
وعرّج المتحدث على التقنيات التي تستعمل في عمليات التقطير، حيث أوضح أنه هناك عدة تقنيات للتقطير وهو يستعمل الطريقة الطبيعية سواء عن طريق الغليان وسحب البخار على النبتة فيسحب معه الجزء العطري فيها وهذه الأخيرة مردودها يكون أفضل...»

إلمام بتاريخ صناعة الزيوت النباتية في الجزائر

أظهر شيخي إلماما كبيرا بصناعة الزيوت الأساسية، فأقدم جهاز للتقطير وجد في جبال التبت قبل 3 آلاف سنة، وحينما اكتشفوا ملكا فرعونيا محنطا بزيت مصنوع من الأرز الأطلسي في مصر، والذي يقال بأنه استخلص من هذا النوع من الأشجار من دولة لبنان القريبة، كما تقول الروايات الأقرب للصواب- بحسبه- بأن اللاجئين الأندلسيين الذين فروا إلى شمال افريقيا بعد سقوط الأندلس، هم من أدخلوا صناعة الزيوت الأساسية والطبيعية في الجزائر بعدة مدن اشتهرت بها على غرار قسنطينة، المدية، البليدة، العاصمة، مليانة، القليعة وتلمسان، حيث كانت النساء الماكثات بالبيت تحضرن زيوتا مختلفة، بحسب كل موسم وبأجهزة تقطير مصنوعة من النحاس.
وبحسب ما بلغنا من المعني، فإن زراعة النباتات العطرية والطبية مثل الياسمين والعطرشة كانت تحظى بأهمية كبيرة في فترة الاستعمار الفرنسي، حيث كانت جدة ملكة بريطانيا فيكتوريا تقتني عطورها من بلدتي الشفة وبني مراد أين تتم عملية استخلاص العطور من النباتات، وبالقرب من محطة القطار في بني مراد كانت تشتغل وحدة للتقطير.
ويرى المتحدث بأن الجزائر تخلت عن صناعة الزيوت الأساسية والطبيعية لاعتبارات ديبلوماسية وسياسية، مشيرا إلى أن ماركات عالمية للعطور كانت تستثمر في الجزائر وتأخذ موادها الأولية (الزيوت الأساسية) منها علامة «chanel» رقم 5 التي تم تصنيعها من زيوت جزائرية، كما أن المُعمر « le Gros» كان يملك وحدات إنتاجية مهمة ضواحي مدينة بوفاريك.
وخلال الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر توقف نشاط صناعة الزيوت الأساسية حتى وحدة الشفة التي كانت متخصصة في تقطير الياسمين وضعت حدا لنشاطها مع بداية التسعينيات، ومع مطلع الألفية الثالثة نقل مخضرمين في المجال خبرتهم لبعض الشباب ولقنوهم المعارف في هذا التخصص.
وتاريخيا أيضا- يقول شيخي- فإن الطبيب المسلم ابن سينا أول من اعطى المبادئ لصناعة الزيوت النباتية والأساسية خلال القرون الوسطى، فماء الورد يتم انتاجه بتقطير زهرة دمشق ، كما أن هناك رواية تقول بأن كلمة «Alambic « التي تعني جهاز تقطير بالعربية تم اشتقاقها من الحضارة الأندلسية، حيث كانت تقام اسواق للعطور قبل صلاة الجمعة، ولما يأتي الأوروبي يرحب به البائع بعبارة «أهلا بيك « وجهاز التقطير موضوع امامه، ما أوحي للوافد الأجنبي أن جهاز التقطير يسمى هكذا فاطلقوا عليه اسما مشابها بعد سقوط الأندلس.

 صادر عن مجلة التنمية المحلية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024