تثمينها ضرورة تقتضيها الوثبة الاقتصادية المنشودة

النّخيل..ثـروة أصلهـا ثابـت وفرعهـا فـي السّمـاء

ريبورتـــاج: سفيـــان حشيفـة

«دقلــــة نـــور»..تفرّد جزائري في صدارة الطّلبات بالأسواق العالمية

تحتكم الجزائر على مقوّمات زراعية متنوّعة وهائلة قلّ نظيرها في العالم، بتربة خصبة منتجة، يعزّزها مناخ نادر قابل للزراعات واسعة النطاق على مدار العام، لموسمين فلاحيَيْن مختلفين شتاءً وصيفاً، وهو ما لا تتوفر لدول أخرى تعتمد أساسا على زراعة الموسم الواحد سنوياً.

 تَتَميّز أقاليم القطر الجزائري بِثراء وجودة محاصيلها الزراعية، على غرار ثروة النخيل الإستراتيجية في الولايات الصّحراوية، التي تتزيّن واحاتها، حسب المعطيات، بحوالي 20 مليون نخلة تُدِرّ ما بين 10 و12 مليون قنطار سنويا، من محصول التمور بمختلف أصنافه كـ «دقلة نور»، «الغرس» و»الدقلة البيضاء».  

«دقلة نور»..امتياز عالمي

تستحوذ «دقلة نور» الجزائرية المصنّفة ضمن أجود وأفخر أنواع التمور في العالم، على نصف الإنتاج الوطني الإجمالي من المحصول، يُوجّه جزء كبير منها إلى التصدير للأسواق الخارجية، نحو دول الإتحاد الأوروبي وشرق آسيا.
ويَترَكّز إنتاجها بولاية بسكرة، صاحبة المرتبة الأولى، ثم غرداية والوادي وورقلة وتوقرت والمغير وبعض الولايات الصحراوية الأخرى بأقل حجم، ولقد أوْلتها السلطات العمومية باهتمام بالغ، حماية ومتابعة، نظرا لمكانتها المميّزة في الأسواق العالمية، وتفرّد واحات النخيل الجزائرية بإنتاجها.
في هذا السياق، لوحظ زيادة في مبادرات التصدير لصنف دقلة نور خلال السنتين الأخيرتين، نظير جودتها وتضاعف الطلب عليها من الدول الأجنبية خصوصا من دولة ماليزيا.

رافد تنموي محلي

تعتبر واحات النخيل المتواجدة على مستوى ولايات شمال الصحراء وعمق الجنوب الكبير، مصدرا تنمويا مهمّا ومستداما، تساهم بشكل مباشر في خلق الثروة ومناصب الشغل بالمجتمعات المحلية، وتحقيق الاستقرار الريفي بالمناطق النائية، لكن هاته الثروة النوعية ما تزال غير مستغلة على الوجه الأمثل من الناحية الاستثمارية والصناعية التحويلية، فضلا عن استهلاكها الغذائي المباشر الخام، إذ تعد التمور - في حد ذاتها - مادة أولية تدخل في العديد من الصناعات الغذائية الأساسية مثل السكر والمربّى والعسل والخل والزيوت، وغيرها من المنتجات واسعة الاستهلاك.
وفي حين تُتْلف نواة التمر أو يُستعمل جزء بسيط منها في شكل أعلاف للحيوانات محليا، هناك من يستغلّها ويثمّنها في عملية استخراج أفضل وأجود أنواع الزيوت وأغلاها في العالم، كون زيت نواة التمر من الزيوت النادرة، ويكثر عليها الطلب في الأسواق للاستخدامات الطبية، ولدى كبريات «ماركات» التجميل الدولية.  
وبما أنّ القطاع الفلاحي يتوفر على إمكانات وموارد لترقية المسار التقني لكل ثروة النخيل المحصاة عبر ولايات الوطن، أصبح من الضروري مضاعفة حجمها، والرّفع من مردودها الإنتاجي السنوي الإجمالي، مع ضرورة إقحام المعاهد الوطنية الفلاحية والمهندسين والخبراء الزراعيين في متابعة ومرافقة الفلاحين بشكل دقيق ومتواصل، إلى غاية تحقيق الزيادة المرجوة في حجم هاته الثورة الإستراتيجية، وتوجيه جزء منها للصناعات التحويلية الغذائية الوطنية لمواكبة خطط الإنعاش الاقتصادي سارية المفعول.

أهمّ شعبة فلاحية خارج المحروقات

 اعتبر الخبير الإقتصادي نور الدين جوادي، زراعة النخيل من أهمّ الشعب الفلاحية المنتجة خارج قطاع المحروقات، باعتبارها تمثل قدرات اقتصادية هائلة يمكن استثمارها في تسريع تجسيد برنامج الإنعاش الاقتصادي والصناعي 2020 - 2024، وتعميق واستدامة الأثر التنموي، ومنه تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز السّيادة الوطنية.
وقال البروفيسور جوادي في تصريح أدلى به لـ «الشعب»، إنّ نجاح الاستثمار في شعبة النخيل يحتاج إلى إصلاحات هيكلية خاصة فيما يتعلق بالتكوين المقاولاتي للفلاح، وتغيير طريقة تسييره للمزرعة التي يطغى عليها النمط التقليدي، وهذا يكلّف القطاع خسائر تقزّم من فعاليته في مشروع التنمية الوطنية، ومثال ذلك إهدار المخلفات التي تنتجها أشجار تلك المزارع.
وبحسب محدّثنا، تشير الأرقام إلى ما بين 55 إلى 60 % من مداخيل الفلاح في الدول المتقدمة، يجنيها من المخلفات الفلاحية بدل المحاصيل الأساسية لزراعته، والتي يرميها الفلاح الجزائري، ويسعى جاهدا للتخلص منها دون محاولة استغلالها.

مخلّفات مهملة

 في الجانب الإقتصادي لشعبة النخيل، مثلما يكشف جوادي، تدخل المخلّفات كمصدر مباشر في إنتاج ما لا يقل عن 10 صناعات تقليدية وحديثة من شأنها تحقيق إنعاش صناعي مهم، واستحداث مناصب شغل دائمة ومؤقّتة هائلة، ناهيك عن فرص التصدير وإمكانية كبيرة لخفض فاتورة الاستيراد إلى مستويات دنيا، وهو ما يجعل من النخلة منظومة صناعية كاملة أكثر من كونها شجرة لإنتاج التمور.
وأضاف الخبير نور الدين، أنّ النخلة تنتج، إضافة للتمور ومشتقاتها، حوالي 10 أنواع من المخلّفات دوريا، وهي «الجريد» و»السعف اليابس» و»السعف الأخضر»، وهو ما ينتج جراء التقليم، مثل الليف، النوى، العراجين الفارغة الناتجة عن جني المحصول، العراجين والشماريخ الناتجة عن عملية التخفيف، قواعد الجريد أو ما يعرف بـ «الكرناف»، جذوع النخيل الميت أو المُقتَلع، الفسائل المتخلص منها، لفائف الطلع وأغلفتها المستعملة أو الزائدة عن الحاجة بعد انتهاء عملية التلقيح، أغلفة العراجين، وكلها مصادر لا تنضب للمواد الأولية لمشاريع استغلالها.

ارتباط وثيق بالصّناعات التّقليدية والخشبية

تُشكّل مخلّفات النخلة، كما يُبرز جوادي، مادة أولية لكثير من الحرف التقليدية في الولايات الصحراوية، بالإضافة إلى الصناعات الحديثة كـ «عجينة الورق» و»بدائل الأسمدة العضوية» وصناعة الخشب المضغوط، الذي أثبتت نتائج اختبارات معهد ميونيخ لبحوث الأخشاب عام 1996م، أنّها تتوافق مع المعايير العالمية لنوعية الخشب المسموح باستعماله.
وتابع يقول: «بخصوص الخشب، بحسب وزارة التجارة وترقية الصادرات، فإن فاتورة وارداته الموجهة للبناء ومشتقاته تتجاوز 550 مليون دولار سنوياً، وهو الرقم الذي يمكن أن تسهم صناعة الخشب المضغوط من مخلفات النخلة وغيرها من النباتات في تقليصه بنسب كبيرة قد تتراوح بين 20 إلى 30 %، خاصة وأن الجزائر تحظى بحوالي 20 مليون نخلة، تنتج الواحدة منها ما معدله 25 إلى 30 كلغ من المخلفات سنوياً، ما يعني إنتاج سنوي حجمه قرابة نصف مليون طن من مخلفات النخيل، ناهيك عن ثروة غابية تتجاوز 11 % من إجمالي مساحة البلد».
وعلى ضوء ما سبق، يرى البروفيسور نور الدين جوادي، أن الظرف الحالي يستوجب توجيه اهتمام بالغ لشعبة زراعة النخيل، أولا بإعادة هيكلتها واحتواء النشاط الموازي الذي ينخرها بنسب عالية خاصة في الصحراء، وثانيا من خلال نشر ثقافة المقاولاتية في أوساط الفلاحين وتكوينهم علميا، وتعميم نمط المستثمرات الفلاحية بدل المزارع التقليدية متدنية المردودية والإنتاجية.

تحقيق التّوازن البيئي والاجتماعي

 أبرز رئيس الإتحاد الوطني للمهندسين الزراعيين، منيب اوبيري، في تصريح لـ «الشعب»، أن النخلة من أفضل الأشجار المنتجة للثمار في المناطق الصحراوية، بالنظر لاحتوائها على مزايا غذائية واقتصادية كثيرة تزخر بها، وهي عامل أساسي مساهم في التوازن البيئي والاجتماعي لساكنة تلك المناطق.
وأكّد منيب أنّ شعبة النخيل يمكن أن تكون  القطاع الاستراتيجي البديل عن النفط، بالتوازي مع الفوائد البيئية الأخرى التي تؤديها لفترات زمنية طويلة، باعتبارها شجرة معمرة ومقاومة للظروف المناخية القاسية كالتصحر والجفاف والترمل في الأقاليم الصحراوية الملائمة لزراعتها.
ووفقا لمحدّثنا، فإن النخلة الواحدة تُنتج ما بين  65 إلى 100 كيلوغرام من التمر، ناهيك عن أكثر من 36 كيلوغراما من المخلّفات المتعلقة بعمليات الحصاد والتقليم والتنظيف والتخفيف التي  تصلح للتدوير، وإعادة التحويل في العديد من الصناعات والحرف.
أمّا فيما يخصّ الجانب المناخي البيئي، يضيف أوبيري، فإنّ النخلة الواحدة تستطيع سحب 3 طن من الكربون الموجود في الجو، ضمن عملية امتصاص مهمة تقوم بها هاته الشجرة، كما يمكن استخراج 280 لتر اثيلين حيوي من الطن الواحد من التمور.

الاستثمار في النّخيل..له ثمراته

 يرى منيب أوبيري، أنّ الاستثمار في ثروة النخيل مهم جدا للتصدي للتحديات الاقتصادية المختلفة، لتمتعها بحظوة غذائية نوعية قد تساهم في تحقيق الأمن الغذائي، وإتاحة مواد خام من التمور والمخلفات للعديد من الصناعات التحويلية الاستهلاكية، أو لباقي المجالات كالحرف التقليدية المحلية.
وبناءً على هذا، يمكن الاستثمار في شعبة النخيل، وتنويع مصادر الدخل الوطني ورفعه، وتوفير عملة صعبة للخزينة العمومية من خلال تصدير التمور، خاصة «دقلة نور» إلى الأسواق العالمية، بالإضافة إلى دور هذه الشجرة الطيبة في تحسين الوضع الإجتماعي والمعيشي للساكنة، بتحقيق التوازن التنموي، واستحداث فرص عمل دائمة ومؤقتة على مدار العام، يضيف رئيس الإتحاد الوطني للمهندسين الزراعيين.

التّكوين في مجال تسلّق النّخيل

 لفت عمار احثريب، رئيس جمعية أكفادو الفلاحية بالدبيلة في الوادي، النظر إلى أهمية تطوير التكوين في مجال تسلّق النخيل، ومنح فرص أكبر للشباب لإنشاء مؤسسات مصغرة للعمل في إطار زراعة وتثمين الشعبة، ما من شأنه توفير مجموعات مكوّنة ومؤهلة في هذا المجال وتوسيع النشاط المقاولاتي فيه.
وأبرز احثريب في اتصال مع «الشعب»، الدور الفعّال للمكننة الزراعية في تطوير شعبة النخيل، وتنمية قدرات الفلاح المحلي الذي رفع التحدي، ويتطلع إلى ترقية وتوسيع غراسة النخلة ورفع مردودها الإنتاجي، بالموازاة مع الدفع بمجال الصناعات التحويلية وتوضيب التمور وكل ما يرتبط بمشتقات التمور.

إقحام الجامعات في مكافحة الآفات الفلاحية

أما فيما يتعلق بالآفات الفلاحية، فقد أشار عمار احثريب، إلى ضرورة إشراك وإقحام الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي في مكافحة الآفات التي يمكن أن تصيب النخيل، مثل سوسة التمر، خنفساء وحيد القرن، وداء البوفروة الذي أصبح يشكل هاجسا للفلاحين في شتى مراحل نمو المحصول، وأردف قائلا: «على الباحثين وإطارات الجامعات توفير مبيدات حشرية بيولوجية ناجعة في الأسواق، من أجل ضمان الجودة الشاملة للمنتجات الفلاحية، لاسيما التمور التي تحظى باستهلاك واسع ومباشر في أوساط المجتمع، مع القيام بإحصاء شامل للنخيل في ولايتنا والولايات المنتجة؛ لأنه من الضروري معرفة التعداد وحجم الإنتاج لتهيئة مراكز ومؤسسات تصنيع تحويلي كافية مستقبلا».

ثروة قومية

 يصف عمار احثريب شعبة النخيل بـ «الثروة القومية»، التي تتطلّب توسيع مساحاتها وتكثيف زراعتها من خلال تشجيع الفلاحين والمستثمرين على الإقبال عليها، توفير الكهرباء الفلاحية أو استغلال الطاقة الشمسية، والعمل على حمايتها من الآفات كـ «البوفروة» و»سوسة التمر» وغيرها من الأمراض الأخرى، علاوة على البحث في آفاق جديدة للصناعات التحويلية لمنتوج التمور، فهي الكفيلة بتحفيز وتشجيع الفلاح على تكثيف غراسة النخيل والاستثمار أكثر في الشعبة، بما يسمح بمضاعفة حجم الإنتاج وتحسين وضعية التسويق ومبادرات التصدير، يضيف رئيس جمعية أكفادو الفلاحية في الوادي.
ومع تفاقم الأزمات الغذائية في العالم، واضطرابات سلاسل التوريد وارتفاع تكاليفها، تعمل السلطات الوصية على النهوض بشعبة التمور الإستراتيجية واستغلالها الأمثل في الصناعات التحويلية الغذائية الوطنية، بغية تحقيق متطلبات الأمن الغذائي الوطني واستقلاليته، وتعزيز الصادرات خارج قطاع المحروقات، لاسيما وأنّ الجنوب الكبير يحتوي على مساحات كبرى من الأراضي الفلاحية المناسبة لاحتضان استثمارات هذا النوع من الأشجار المثمرة متعدّدة المنافع الاقتصادية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024
العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024