واجهة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015

متحف سيرتا يروي حضارة الجزائر العريقة

قسنطينة: مفيدة طريفي

التّظاهرة الثقافية قسنطينة عاصمة الثقافة العربية تعدّ الحدث المميّز في جزائر 2015، وأكبره دلالة وتعبيرا على الاطلاق خاصة وأنّها تأتي في سياق المكاسب والانجازات المحقّقة خلال السنوات الأخيرة.وتمثّل هذه المكاسب تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية التي عرفت بحضارة الجزائر الضّاربة في الأعماق، وكسّرت التّعتيم الاعلامي المفروض عليها منذ مدة.استقبل سكان مدينة الجسور المعلقة التظاهرة بفرح وسرور، معتبرين أنّ انتزاع تنظيم التظاهرة جدير بقسنطينة الثقافة، التسامح والعلم.
«الشعب” عاشت زمن اختيار مدينة الجسور المعلّقة لاحتضان التظاهرة، تنقل تفاصيل الحدث والتحضيرات له من خلال هذا الاستطلاع الميداني.
اختيرت قسنطينة لتكون عاصمة العرب الثقافية لعظمة معالمها وآثارها التاريخية، فرغم التأخر المسجّل بعدد من المشاريع خاصة فيما يخص القطاع المحفوظ على غرار عملية ترميم المدينة القديمة التي لا تزال في بداياتها نظرا للعراقيل المسجّلة، إلاّ أنّ الولاية ولثراء معالمها الثقافية ستستقبل الاحتفالية بمؤهّلاتها وموروثاتها الحضارية والتاريخية.
يعتبر متحف سيرتا من أبرز المعالم التاريخية المعروفة بالولاية، حيث ومن الواضح أنّ إنجازات الدولة الجزائرية لم تقتصر فقط على فترة ما بعد الاستقلال، ولا على الموروث التاريخي الذي يعود لعصور غابرة.
يعتبر متحف سيرتا الوطني بقسنطينة من أقدم المتاحف وأكبرها، حيث يحتل المرتبة الأولى على المستوى الوطني والثانية على المستوى الإفريقي، لما له من قيمة أثرية لاحتوائه على أكثر من 14 ألف قطعة فريدة من نوعها، الأمر الذي جعله قبلة للزوار من مختلف أنحاء الوطن والعالم، باستقباله أكثر من 10 آلاف زائر سنويا.
المتحف التاريخي سيرتا يتربّع على مساحة قدرها 2100 م2، منها 900 م2 استغلت كحديقة بحي الكدية المقابل للصخر العتيق بوسط المدينة.
جاءت فكرة تأسيس المتحف في القرن الماضي كنتيجة حتمية لما كان يكتشف من آثار في المدينة، وتعود فكرة إنشائه لرواد الجمعية الأثرية لمقاطعة قسنطينة والتي استطاعت إقناع السلطات في تلك الفترة بإنشاء متحف، فخصص لها أولا قاعة وسط المدينة بالقرب من ساحة الجمال لتكون تحت تصرّفها، إلاّ أنّ هذه القاعة كانت لحفظ القطع الأثرية وتخزينها لا غير، بعدما نقلت هذه الأدوات وتلك القطع الأثرية للمرة الثالثة إلى قاعة الحفلات ببلدية قسنطينة الحالية، لكن هذا التنقل من قاعة إلى أخرى لم يرض أعضاء الجمعية وهواة الآثار، فطلبوا إنشاء متحف متنقّل بوظائفه من عرض وحفظ وتخزين.
 اختيرت كدية عاتي موقعا لمعبد قديم للمدينة لما حملته طبقاتها من آثار لمختلف الحقب التاريخية، وفي فترة العشرينات من القرن الماضي بدأت أشغال بناية المتحف والتي انتهت سنة 1930 على شكل فيلا إغريق رومانية قام بتصميمها المهندس “كاستيلي”، ليفتح المتحف أبوابه سنة 1951 تحت اسم “قوستاف ميرسي”، الذي كان المدير العام للجمعية الأثرية آنذاك، وبقي المتحف بهذا الاسم إلى غاية 5 جويلية 1975، إذ أطلق عليه الاسم القديم بقسنطينة متحف سيرتا، وفي سنة 1986 صنف كمتحف وطني وأصبح يحمل اسم “المتحف الوطني سيرتا.
 آثار تروي فترة ما قبل التّاريخ
إلى الفترة المعاصرة
يحتوي متحف سيرتا الوطني على ثلاثة أقسام، قسم خاص بالآثار، قسم الفنون الجميلة وقسم الاتنوغرافيا، ويضم قسم الآثار العديد من اللقى الأثرية لمختلف الفترات التاريخية من مرحلة ما قبل التاريخ إلى الفترة المعاصرة موزّعة عبر قاعات حسب الترتيب الزمني.
في زيارتنا إلى قاعة ما قبل التاريخ، توقّفنا عند مناظر جذابة ومشاهد آية في الجمال السري.
توقّفنا في بداية الاستطلاع عند نوعين من الواجهات الحائطية والأرضية تحتوي على آثار لمختلف الإنتاج الصناعي لما قبل التاريخ بجميع عصوره، هي عبارة عن أدوات حجرية عظمية، عاجية بعضا من القواقع التي من خلالها نلمس تطور الفكر البشري في هذه الفترات.
أما الواجهات الأفقية فقد خصصت للتوزيع الجغرافي للمحطات الكبرى لعصور ما قبل التاريخ في الشرق الجزائري المتمثل في كهف الدببة وكهف الاوري بسيدي مسيد،
والمعروفين عند السكان بكهف الزاهر بمحطة مشتى العربي.
الواجهات الحائطية تشكّل ديكورا جذّابا،تعبر عن التطور الزمني للصناعة الحجرية لعصور ما قبل التاريخ انطلاقا من محطة عين حنش إلى غاية العاثرية ثم القفصية، وصولا إلى الصناعة النيوليثية، وفي النهاية خصّصت واجهة للمقارنة بين الصناعات الأوروبية والمحلية.
ولتدعيم القاعة حسب شروح المسؤولين، علّقت عدة صور شمسية وخرائط تعبر عن الحضارة الميقاليثية، الرسوم الصخرية
وكذا توزيع الحضارة القفصية، بالإضافة إلى بعض اللوحات التي ثبتت عليها متحجرات لعضام الحيوانات. القاعة الممهدة للتاريخ تضم ثلاث واجهات واثنين حائطية بهما آثار جيء بها من تدنيس، وهي عبارة عن فخار مقلوب يحمل زخارف محلية بعض من عرى الخوابي عليها أختام إغريقية اكتشفت بقسنطينة، بالإضافة إلى قطع أثرية عثر عليها أثناء عمليات تنقيب بكهف جبل القردة وميناء بجاية، كما تضم القاعة النوميدية إحدى عشر واجهة حائطية تتضمن آثار مختلفة كالفخار والزجاج
والقطع الفضية والنحاسية، وكلها تعبر عن حضارات متعاقبة تشكل هذه المعادن اسمنتها وقوة دلالتها وتعبيرها الخالد.    
حضارات صنعت تاريخ الجزائر الثريبمجرد دخولنا لقاعدة المعبودات أدركنا أننا انتقلنا إلى فترة من تاريخ المنطقة، وهي الحضارة النوميدية في ظل الإمبراطورية الرومانية. تحوي هذه القاعة تماثيل حجرية ومنحوتات لعدة آلهة ونقوش جنائزية،يتصدرها تمثال الإله “بافوسي” من الرخام الأبيض.
تضم قاعة تخزين القطع الأثرية التي يتم العثور عليها، والتي جيء بها من عمليات تنقيب من المدينة التي تبعد عن قسنطينة بحوالي 27 كلم شمالا، وتسمى مدينة الخزفيين، وهذا لكثرة الأواني الفخارية التي تحويها، بالإضافة إلى قاعة المسكوكات لمختلف الفترات النوميدية الرومانية و الجمهورية الإمبراطورية.
كما تضم القاعات الأخرى آثارا لها علاقة بالمعتقدات يغلب عليها الطابع الديني والمسيحي، ناهيك عن قلعة بن حماد التي تحوي لقى أثرية جيء بها من عمليات تنقيب أجريت بالقلعة.
تحتوي القاعة الكبرى على اللوحات الفنية
والفسيفساء التي يرجع تاريخها من منتصف القرن الثاني ميلادي إلى غاية القرن الرابع، أقدمها اللوحة الفسيفسائية التي وجدت بسيدي مسيد تمثل عقاب “جوبتير” يمسك حزمة نارية.
وبالنسبة للفنون الجميلة فالمتحف يحتوي على جناح يضم ثلاث قاعات في الطابق العلوي اثنان منها خصصت لعرض لوحات فنية لرسامين أوروبيين، عاشوا ما بين القرن السابع عشر والعشرين، القاعة الأخرى خصّصت لرسامين جزائريين مثل “بشير بوشريحة”، “عمار علالوش”، “احمد مزياني”، “أمين خوجة الصادق”، إضافة إلى بعض المنمنمات وجناح الاتنوغرافيا الذي يضم قطعا أثرية تتعلق بعادات وتقاليد الجهة الشرقية من الجزائر على العموم ومدينة


قسنطينة على وجه الخصوص. وحتى حديقة المتحف لا تخلو من وجود نقوش تمثالية ومنحوتات ترجع إلى مستعمرة سيرتا على وجه الخصوص، كما توجد تماثيل من الرخام كتمثال “والد سبتيم” وآخر للزوجة الأولى “باليسا مرسينا”، بالإضافة إلى تيجان أيونية.
موروث غني قبلة
للزوّار الأوروبيّين والآسيويين
 بالنظر إلى المكانة التي يحتلها المتحف من حيث القيمة الأثرية والسمعة الطيبة التي يتمتع بها في الدول الأوروبية، فهو وجهة الكثير من المهتمين بالآثار منهم الوفود الرسمية أمثال السفراء في إطار بعثات علمية وسياحية، خاصة من قبل الإيطاليين والفرنسيين واليابانيين الذين يتوافدون بكثرة على المتحف.
هذا ما رصدناه أثناء جولتنا بالمتحف والشروح التي تلقيناها حول هذا الكنز الثمين الذي يروى حضارات متعاقبة على الجزائر، ويكشف عن موروث ثقافي يقدم الاجابة الشافية والأدلة القاطعة لأولئك الذين يتمادون في التنكر لما تتوفر عليه البلاد من معالم وآثار تجعلها بحق في مكانة متميزة وموقع يليق بمقامها وشموخها.
نؤكّد على هذه الحقيقة استنادا لشهادات حية أدلى بها لـ “الشعب” زوّار أجانب وجدناهم بعين المكان، منبهرين بهذا المقصد السياحي الثقافي الغالي.
أثناء الزيارة التي قامت بها “الشعب” بأرجاء المتحف، وجدنا وفدا أجنبيا أبدى لنا أفراده إعجابهم بالموروث المتحفي لما يتضمنه من قطع قيمة، كما أكدوا على أن زيارتهم لهذا المتحف جاءت نتيجة المكانة المرموقة التي ينفرد بها.
 وحسب الإحصائيات الوطنية فقد تم تسجيل تزايدا وارتفاعا من سنة إلى أخرى، ذلك نتيجة السياسة المنتهجة من طرف إدارة المتحف في السنوات الأخيرة، سيما بتعزيز الثقافة المتحفية وسط المؤسسات التربوية، من خلال برنامج الحقيبة المتحفية بحيث يذهب مختصون في هذا المجال إلى مؤسسات التربوية في إطار التعريف بالموروث عن طريق أقراص مضغوطة تحتوي على محتويات المتحف
وتاريخه، بالإضافة إلى تاريخ قسنطينة،
وفي نهاية السنة يتم تقييم الحقيبة من خلال طرح الأسئلة على شكل مسابقة، ويتم إرسال الأجوبة إلى المتحف والفائز يتحصل على جائزة قيمة وشهادة تمكّنه من زيارة المتحف لمدة سنة دون مقابل.
لاقت هذه الطريقة نجاحا واستحسانا من طرف المؤسسات التي أصبحت تطلب من إدارة المتحف إرسال الحقيبة المتحفية، وهو النجاح الذي كشفت عنه الإحصائيات لأكثر من 10 آلاف زائر سنويا، وهي في تزايد مستمر خاصة وأن هذه الحقيبة تستهدف المناطق النائية و الولايات المجاورة لولاية قسنطينة.
وبهذه القيمة الأثرية عملت إدارة المتحف على تأمينها بطريقة محكمة بتثبيت  كاميرات في كل زاوية من المتحف، كما تسعى لجلب تقنيات أكثر تطورا لحماية هذا الموروث باعتباره مؤسسة تربوية تعليمية إلى جانب كونها ثقافية، تحمل في طياتها أهداف سامية تتمثل في إشعار الجيل الجديد بقيمة هذا التراث الذي يبعث على الفخر و الاعتزاز.
بهذه الطريقة تعرف الحملات التحسيسية بهذا المعلم التاريخي وجعله واجهة مشرفة لزوار عاصمة الثقافة العربية 2015، هم زوار من نوع خاص شغوفين بمعرفة تاريخ المدينة العريقة حضارة الجزائر التي تعبر عنها كل تحفة أثرية، وتروي عنها ألف حكاية وحكاية في عالم التنوع والتعدد الثقافي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024