بناء الدولة الوطنية لدى الرئيس الراحل هواري بومدين

ميراث الحركة الوطنية ومواثيق ثورة نوفمبرمرجعية لإقامة دولة قوية

بقلم: د . مصطفى بوطوره سفير مستشار بديوان وزارة الشؤون الخارجية

 اللامركزية في تسيير المؤسسات والبلدية قاعدتها الأولى

كيف كانت مقاربة الرئيس الراحل هواري بومدين لاعادة بناء الدولة الوطنية القوية بمرجعيتها النوفمبرية ومبادئ تحرر الإنسان والارض. دولة لا تزول بزوال الحكومات والأفراد، كما ظل يردد في خطبه للامة حاملة لرؤية استشرافية تبقي البلاد في حركية دائمة منطلقة نحو التطور اعتمادا على استقلالية قرار وسيادة لا تقبل المساومة. الى اي مدى فهم بومدين جوهر إدارة الصراع والتعاون مع المحيط الجيواستراتيجي الثابت والمتغير. ولماذا اختار الانطلاق في مسيرة البناء والانماء بترتيب البيت الداخلي معتمدا في اسس التسيير على اللامركزية حيث البلدية قاعدته الاولى.
انها اسئلة يجيب عنها د.مصطفى بوطورة سفير مستشار بديوان وزارة الخارجية في مداخلة له بالملتقى العاشر لهواري بومدين المصادف للذكرى الـ 40 لوفاة فقيد الجزائر التي أحيت هذه المرة في منطقة تحمل اسمه بلدية هواري بومدين بقالمة.      
 التحرير


- إن تصور الرئيس الراحل هواري بومدين لإعادة  بناء الدولة الوطنية وفهم جوهر ادارة الصراع والتعاون مع البيئة الخارجية لم يأت من فراغ ولا مع وقت وصوله إلى سدة الحكم  في 19 جوان 1965 وإنما يعود إلى عدة محددات لعل من بينها:
مضمون ميراث الحركة الوطنية  الجزائرية ومواثيق ثورة نوفمبر الخالدة ولا سيما بيان أول نوفمبر الذي شدد على أهمية إعادة بناء  دولة ديمقراطية اجتماعية  في إطار المبادئ الإسلامية ،  والخلفيات الفكرية للمؤسسات التي أقامتها الجزائر خلال  الثورة  وأداء مهامها وعلاقاتها ببعضها (جبهة التحرير الوطني ، جيش التحرير الوطني  ، المجلس الوطني للثورة  ولجنة التنسيق والتنفيذ التابعة له  وأخيرا الحكومة المؤقتة  )  وامتدادا لذلك التصور الذي جاء به ميثاق طرابلس 1962  وأكده  ميثاق الجزائر لعام 1964 وكذلك بيان 19 جوان 1965.
التنشئة الاجتماعية للرئيس بومدين منذ طفولته في وضع اجتماعي صعب وقهر الاستعمار للشعب الجزائري بحرمانه من  ثرواته  ومحاولة مسخ شخصيته ، والقضاء على دولته الوطنية التي كانت لها نفوذ كبير في البحر الأبيض  المتوسط وهيبة دولية كبيرة قبل 1830
-  انطلاقا من المرجعيات المذكورة أعلاه وبعد ترتيب البيت الداخلي  ومن اجل إرساء أسس إعادة بناء  الدولة الوطنية تم اعتماد اللامركزية في تسيير مؤسسات الدولة.  وعلى اثر إصدار قانون البلدية  18 / 01 / 1967 نظمت الانتخابات البلدية  الأولى يوم 5 / 02 / 1967  وفي غضون ثلاثة أسابيع  أي في يوم 27 فيفري 1967 أشرف الرئيس بومدين على ندوة وطنية لرؤساء البلديات ستصبح تقليدا سنويا ،  وهذا يعكس حرص الرجل على  إعطاء أهمية كبيرة لهذه المؤسسة المنتخبة محليا وإشراك الناس في ادارة شؤونهم  وبناء مؤسسات الدولة ابتداء من القاعدة ، ومما جاء في كلمته الافتتاحية  ( لا يجب أن ننظر إلى ما جرى كعملية انتخابية معزولة  ومنفصلة ، او كعملية سياسية موجهة للاستهلاك الخارجي حيث يقال عنا  أو ربما ليشهد أعداؤنا بأننا ديمقراطيون ، وإنما يجب علينا أن نضع هذه العملية التاريخية في قالبها الحقيقي ، وفي مداها البعيد الذي يخدم الأهداف العليا للوطن وبناء  مؤسسات الدولة  )   وتلى ذلك  تنظيم الانتخابات الاولى للمجالس الشعبية الولائية  يوم  24 / 5 / 1969 ، وصولا الى انتخابات المجلس الشعبي الوطني مارس 1977  و قبلها انتخاب رئيس الجمهورية ديسمبر 76   بعد المصادقة الشعبية على الدستور  في نوفمبر  76  المنبثق عن الميثاق الوطني المصادق عليه في  استفتاء شعبي في شهر ماي 76.
- وما سبق ذكره  كانت ترجمته على أرض الواقع  تقتضي توفر شروط ضرورية من منظور أنه لا يمكن بناء مؤسسات الدولة الوطنية وتوفير مستلزماتها دون تشخيص دقيق للوضع القائم والسيطرة على المقدرات الاقتصادية للبلاد.
 وفي هذا الاتجاه تم القيام بتأميم البنوك والتأمينات الاجتماعية والثروات المنجمية وغيرها في  1966 كمرحلة أولى ،  وتوج هذا المسار بقرار تأميم البترول والغاز يوم 24 أفريل 1971 بنسبة 51 بالمائة وهو  الأمر الذي كان واردا وبقوة منذ البداية في ذهن صانع القرار الرئيس بومدين ،   وقد اتخذ هذا القرار الشجاع  بكل المقاييس وقتها بعد تحضير دقيق للملف والاستفادة من تجارب سابقة  من حيث الايجابيات والسلبيات (تأميم ايران   للنفط عام 1952، تأميم مصر قناة السويس 1956) ولم يكن الإقدام على مثل هذه المعارك الشرسة بالأمر الهين، لأنها كانت محفوفة بكل المخاطر، لكن إرادة التحرر من هيمنة الأجنبي كانت صلبة وحاسمة وبرؤية واضحة من حيث الاعداد للأمر والتعامل مع تداعياته ،  وقد كان للتعاون مع بعض القوى الدولية تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية أثره الايجابي في ادارة الصراع مع المستدمر السابق وبالتالي كانت عملية التأميم المخطط لها بحكمة  ناجحة بكل المقاييس ومثال  يحتذى به حيث اقتدت بها دول أخرى مثل العراق وليبيا وغيرها لاحقا ، وهذه المنجزات التي تحققت  كانت في اطار مسعى التحرر الكامل حتى لا يبقى الاستقلال السياسي شكليا فقط، بينما تستمر القوى الأجنبية في التحكم في الثروات واستغلالها لصالحها.
        
 معارك دبلوماسية على أكثر من جبهة

تعزيزا للمكاسب الوطنية نقلت الدبلوماسية الجزائرية المعركة إلى المستوى الدولي، بمبادرات مدروسة بعناية ، بداية من استضافة القمة الرابعة لبلدان حركة عدم الانحياز وهي ترفع راية كفاح العالم الثالث من أجل الاستقلال الاقتصادي ، وقد انعقدت هذه القمة  التي ترأسها الرئيس بومدين في الفترة مابين 05 -09 سبتمبر 1973 بمشاركة 76 دولة و14 حركة تحرر، وكانت من أنجح قمم هذه الحركة حيث ادرج البعد الاقتصادي في جدول الأعمال لأول مرة  في تاريخ الحركة وكانت بصمات  الجزائر واضحة في هذا الخصوص  ، حيث صدر في نهاية القمة ولاول مرة بيانان أحدهما سياسي تركز حول قضايا التحرير في العالم وأهمية دعمها ، في حين تضمن  البيان الاقتصادي عدة توصيات منها :
 مراقبة نشاطات الشركات متعددة الجنسيات
العمل على ايجاد صيغ تهدف إلى الدفاع عن مصالح الدول المنتجة  للموارد الأولية مع التصرف بكامل سيادتها في مواردها الطبيعية.
وعلى ضوء توصيات  قمة حركة عدم الانحياز المشار اليها ولا سيما في المجال الاقتصادي دعا الرئيس هواري بومدين في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 30 جانفي 1974 إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للامم المتحدة ، كان موضوعها : من أجل دراسة المواد الأولية والتنمية. وقد ألقى بومدين خطابا هاما أمام الجمعية العامة للامم المتحدة في هذه الدورة الاستثنائية التي عقدت يوم 10 افريل 1974، تضمن تشخيصا دقيقا لمكامن الداء والإختلالات الكبيرة في العلاقات الدولية بشكل عام، وفي بعدها الاقتصادي بصورة خاصة وصف النظام الاقتصادي العالمي القائم وقتها بالجائر والبالي الذي تجاوزه الزمن مثل النظام الاستعماري الذي يستمد منه أصوله ومضمونه ، مع اقتراح خريطة طريق وتصور عملي في سبيل الوصول إلى علاقات دولية أكثر عدلا.
في ضوء هذا الخطاب الهام عرضت 94 دولة مشروع لائحة بعنوان : الإعلان الخاص بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وفعلا صدر عن هذه الدورة الاستثنائية التاريخية وثيقتان في غاية الاهمية وذلك امتدادا لقرار قمة الجزائر لدول حركة عدم الانحياز هما :
إعلان بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد
برنامج عمل من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي جديد.
في إطار مكمل أدرجت الجزائر أهمية إصلاح المنظمات الدولية القائمة ، من أجل تكفل أفضل بمشاكل التنمية ، وكانت وراء إصدار لائحة الأمم المتحدة رقم 3362 في دورتها العادية  الـ29 لعام 1974 التي هدفت من ورائها إلى دمقرطة المنظمات الدولية التي تهيمن عليها القوى الكبرى ، وتضمنت هذه اللائحة بالخصوص :
إعداد دراسة لجعل نظام الامم المتحدة قادرا على معالجة مشاكل التعاون الاقتصادي، كما صادقت هذه الدورة التي كانت برئاسة وزير الشؤون الخارجية وقتها السيد/ عبد العزيز بوتفليقة على : ميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول من خلال قرارها رقم 3281 بتاريخ 12/12/1974: كما كان من بين قرارات هذه الدورة الهامة تجميد عضوية النظام العنصري في جنوب افريقيا في الامم المتحدة،  وتمكين ياسرعرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من المشاركة فيها، واسماع صوت فلسطين والمرافعة بشكل مباشر من على منبر الامم المتحدة  دفاعا عن قضيتها العادية .
وقد كانت الجهود الدبلوماسية المنوه عنها أعلاه من اجل تعزيز خدمة التنمية الوطنية  في الداخل بكل أبعادها وتدعيم  بناء صرح دولة قوية وفقا لقول بومدين  نفسه :
 (إن البناء الذي نريده هو بناء دولة قوية بناء دولة عصرية تبقى وتستمر بعد زوال الأشخاص ).
( إن تاريخ الشعوب ليس إلا سلسلة من المعارك المتنوعة تخرج ظافرة من معركة لتدخل مزودة بسلاح جديد إلى معركة جديدة، فإذا كنا قد خرجنا من معركة الاستقلال فإن ذلك إلا سلاحا لا بد منه  لخوض معركة أخرى في معركة النهضة والرقي والحياة (نوفمبر 1966)

الثالوث المقدس

- كان بومدين يدير شؤون البلاد وفق  رؤية واضحة  لبناء دولة قوية عادلة تحقق الكرامة للشعب وفق منظور فلسفة حكمه القائمة على الثالوث المعروف  (ثورة ثقافية ، ثورة زراعية ، ثورة صناعية)  ،  بتجنيد كل شرائح المجتمع من العمال  والفلاحين  والنساء والشبيبة  بتأطير من الجهاز المركزي لحزب جبهة التحرير الوطني وأمانته التنفيذية .
- كان البعد الاجتماعي واحتياجات شعب بأكمله من تعليم وعلاج وسكنات وغيرها ،  وهو يعاني الأمرين جراء سياسات الاستدمار بكل معانيه أولوية الاولويات  ضمن رؤية بناء دولة وطنية  قوية تستجيب  لما سبق ذكره  ومن هذا المنظور تم اقرار مجانية التعليم للجميع  حيث يقول بومدين ان الجزائر قد رفعت شعارها الاول : التعليم حق للجميع لان التعليم هو حجر الزاوية في بناء الامة لأن الشعب المتعلم  الواعي هو شعب حر لن يستعبد أبدا،   وهذا ما يفسر فلسفة ديمقراطية التعليم واجباريته  من اجل اتاحة الفرصة لكل ابناء الشعب للتمدرس  مجانيا وهو ما حرم منه اباؤهم وأجدادهم في ظل سياسة التجهيل التي مارسها المستدمر طيلة 132 عاما متواصلة ، ولأجل ذلك  كان من الضروري التخطيط لبناء العديد من المدارس والمعاهد والجامعات ، ووضع البرامج الوطنية اللازمة  وجزأرة الاطارات والعمل على تعميم استعمال اللغة العربية، وكذلك  سن سياسة مجانية العلاج للجميع أيضا وبدون استثناء ، وحق المواطنين في سكنات لائقة .
ولتحقيق كل هذه الاهداف الكبرى والطموحة عمل بومدين منذ الايام الاولى لتقلده زمام امور البلاد  وانطلاقا من رؤيته بان اعادة  اقامة مؤسسات الدولة  التي محاها الاستدمار ، واضطلاعها بمهامها على احسن وجه  ، يقتضي اعداد دراسات علمية   تشخص الوضع بشكل دقيق وتقدم المقترحات العملية  ، وقد طرح تصوره هذا  الذي مفاده ضرورة وضع برنامج متكامل في اجتماع لمجلس الثورة، وعلى اثر ذلك جرى نقاش طويل  كانت خلاصته التأكيد على أهمية اشراك من يعرف ويملك التصور الشامل  والقدرة على وضع السياسات والمشاريع الاقتصادية ، الاجتماعية ، الثقافية والدبلوماسية وغيرها ، ولهذا الغرض استدعى الرئيس بومدين السيد محمد الصديق بن يحي الذي كان قد عين سفيرا لدى موسكو وعقد معه اجتماعا مطولا حول الموضوع وكلفه  بأهمية تشكيل فريق عمل ممن يراهم قادرين على العطاء بغرض تقديم برنامج نهضة للدولة الجزائرية في مختلف القطاعات، وهكذا شكل بن يحي أول فريق عمل من  عدة شخصيات   تغطي مجمل المجالات دون تدخل من أحد، وقد قام هذا الفريق  بتشخيص وتقييم وضع البلد أولا ثم اقتراح برامج عمل متدرجة حسب الاولويات من المشاريع العاجلة الى المشاريع التي يحتاج تجسيدها  وقتا وجهدا ومالا  حيث تم التركيز على تأميم أو شراء الممتلكات الفرنسية  وبناء قطاع انتاجي خدماتي وطني،  وكان من نتائج أعمال فريق بن يحي  بالتعاون مع  الاتحاد السوفياتي وقتها في مجال الدراسات والتخطيط  لتطوير الاقتصاد الوطني على المدى الطويل ، بما في ذلك اكتشاف الثروات المعدنية في الصحراء  هي وضع المخطط الثلاثي 1967 ـ 1969 الذي ارتكز على ثلاث دعائم أساسية تلخصت في  توسيع نطاق التعليم العلمي والتكنولوجي  ، بناء قاعدة صناعية  واصلاح زراعي.
 - وفي سياق متكامل ومنذ العام 1966 تم تخصيص العديد من البرامج الخاصة لصالح الولايات الاكثر حرمانا واحتياجا  مثل :  ورقلة ، باتنة ، تيزي وزو ، سطيف ، سعيدة ، المدية ، تلمسان ، الشلف ، المناطق الحدودية الشرقية  ثم تمنراست  وغيرها ، وفي مرحلة لاحقة تم  دعم هذه البرامج ببرامج بلدية خاصة لكنها مندمجة وموجهة من خلال مسار تنموي بما في ذلك تكوين المسؤولين المحليين لتسيير المجموعات المحلية ، وقد مست هذه البرامج البلدية 300 منطقة حضرية
- ولمعالجة ظاهرة الهجرات الكبيرة لسكان الأرياف والبوادي خلال السنوات الاولى للاستقلال  باتجاه  المدن  وإحاطة اغلبها ببيوت الصفيح التي شكلت احزمة من البؤس ، تم تكوين فريق من الخبراء في أواخر الستينات بحث في اسباب الهجرة الكبيرة من الريف نحو المدن ،  وكانت الخلاصة  انهم يهربون من الوضع القاهر والتعيس في الريف بحثا عن ظروف افضل للعيش ،  واتخذ  القرار بضرورة توفير متطلبات الناس في الريف ،  وبدأ العمل على انجاز مشروع  كبير بكل الابعاد والمقاييس وهو الثورة الزراعية التي بموجبها يتم  تلبية احتياجات سكان الريف في عين المكان عبر مشروع الالف قرية نموذجية التي تحتوي على المدرسة والمستوصف وغيرها من شروط العيش المتوفرة في المدن وتوزع مساكنها مجانا على الفلاحين  وكذلك الارض في شكل تعاونيات  جماعية ، وقد تم تزويد الفلاحين بكل  الوسائل والإمكانيات، مع القضاء على معظم البيوت القصديرية  والأكواخ التي كان الفلاحون يسكنونها ، ومنذ صدور ميثاق الثورة الزراعية في 8 نوفمبر 1971 وضمن استراتيجيتها  كان لا بد من المحافظة على الاراضي الزراعية المتوفرة ،  واقامة حواجز من الاشجار لوقف التصحر ،  وهو ما جسده مشروع السد الاخضر الذي ساهم فيه بالخصوص شباب الخدمة الوطنية ، وقد كانت الفلاحة والفلاحين يحتلان مكانة هامة لدى الرئيس بومدين الذي كان يحثهم في كل لقاءاته الكثيرة معهم على رفع التحدي لكسب معركة الامن الغذائي ،  هذه اللقاءات التي يلاحظ من يتأمل سلوك الرئيس  خلالها مع الفلاحين بأنه كان  يحس براحة كبيرة  ويستمتع  بالكلام معهم .

الصناعة المصنعة والأهداف والغايات

ومع مرور الوقت توسع فريق العمل الذي اشرف عليه بن يحي  وصار يغطي كل الاختصاصات  وتحول الى المجلس الاقتصادي والاجتماعي  الذي يرسم خطط التنمية ويقوم بتقديم مشاريع القوانين وقد ساهم هذا الجهد المعتبر في ما حققته الجزائر في السبعينات من القرن الماضي  من قفزة نوعية في كل المجالات.
- اما في مجال الصناعة   فقد  تم انشاء قطاع عمومي واسع أساسه الصناعة الثقيلة من منطلق مبدأ الصناعة المصنعة  مثل مصانع ( الرويبة ، الحجار ، أرزيو ، سكيكدة ، قسنطينة ، تيزي وزو ) والمئات من الشركات والمؤسسات الوطنية في مختلف المجالات  ، وأصبحت  البلاد تملك قاعدة صناعية مهمة وتتحكم في ثرواتها بعد تأميم مواردها الوطنية وإعادة تأهيلها وتحديثها ، وفي هذا الاطار يقول الاخضر الابراهيمي وزيرالخارجية الاسبق
: (كانت المؤشرات الاقتصادية للجزائر مطلع السبعينات من القرن الماضي أفضل من مؤشرات كوريا الجنوبية، وكانت بالجزائر محافظة سامية للإعلام الآلي في وقت لم يكن  للهند شيء كبير عن هذه التكنولوجيات الرائدة).
  - واستكمالا للتصور الشامل للدولة الوطنية  كان الاهتمام ببناء مؤسسة عسكرية قوية  تمتلك ناصية العلم والتكنولوجيا  دون أن يكون ذلك على حساب المشاكل الاجتماعية  أو اقتصاد البلاد ضمن استراتيجية مرسومة ومتوازنة في صلب  أولويات الرئيس بومدين لأهمية ذلك بالنسبة لأي دولة للدفاع عن مصالحها  وحمايتها  ورسالة لمن تسول له نفسه المساس بها أو الاعتداء عليها  من طرف أي كان ،  وفي الذهن كما أعتقد العدوان الذي شنه النظام المغربي على الجزائر في الايام الاولى لاستعادة استقلالها وهي ما تزال تلملم جراحها  ( حرب الرمال ) وكان في صلب الاستراتيجية تنظيم الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني الذي كان بومدين مؤسس نواته الاولى  من حيث الاعداد والتنظيم والجزائر تخوض ثورتها المسلحة ضد الاستدمار الفرنسي الاستيطاني ، هذه المؤسسة العمود الفقري التي تشكل اليوم الدرع الواقي والحصن الحصين للدفاع عن الوطن وحمايته من تداعيات الأزمات المحيطة ببلادنا وكل التهديدات الأخرى المحتملة من أي مصدر كانت .
وفي هذا الاطار فان النص التالي لكلمة وداع  الرئيس الراحل بومدين بمقبرة العالية  ذات ديسمبر 1978 والتي ألقاها السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير الشؤون الخارجية وقتها  ورئيس الجمهورية حاليا بصوت شجي مؤثر عكس بصدق حجم المأساة بوفاة بومدين والمحاور الاساسية  التي تلخص انجازات عهد هذا القائد  رحمه الله .
( أيها الأخ الرئيس أيها الشقيق الحبيب.. يا ابن الشعب المفدى.. بأرواحنا نفديك لو كان يقبل منا الفداء ،  وها أنت تفارقنا على عجل ونحن مازلنا في أشد الحاجة إليك .. وشعبنا مازال في أشد الحاجة إليك ... إلى روحك المتوطدة بعزم الشباب وحكمة المحنكين .. إلى قلبك الكبير .. إلى قلبك السموح .. إلى رأيك السديد.. إلى بصرك المديد.. أيها الراحل العظيم..
إذا كان شعبنا قد رزئ فيك إلى ما يمكن أن يعبر عنه لسان  ، فإن الأمة العربية لباكية والمتفجعة عليك .. وقد فقدت فيك ابنها البار وقائدا من قاداتها المخلصين وصوتا مدويا في المحافل كلها بمبادئها الراسخة وكرامتها الشامخة وحقوقها الثابتة.. أنها لتبكيك بالأنات والحسرات يازعيم صمودها وتصديها .. لقد كنت صدى الاوراس في حيفا والجليل وكنت هضبة جرجرة  والونشريس في سيناء والجولان..
ان أصوات الباكين عليك ياملاذ المضطهدين لترتفع اليوم في أقصى المشارق والمغارب إن ملايين  المعذبين من بني الإنسانية قد فقدت بفقدك محاميها الصلب عن قضاياها والمناضل الشهم عن مطالبها ..كيف تغيب عن الأذهان لحظة واحدة وكل ما في البلاد ينطق باسمك يابومدين؟ كيف تغيب عن الأذهان لحظة واحدة وكل ما في البلاد يرمز إليك ؟ كيف تغيب عن الأذهان لحظة واحدة وكل ما في البلاد من أقصاها إلى أقصاها ثمرة يانعة  مما غرسته يداك؟
أيها الراحل العزيز لا نريد اليوم  أن نرثيك لان الرثاء للأموات وأنت مازلت بيننا وستبقى بذكراك وآثارك ومآثرك إلى الأبد على قيد الحياة .. وأنت حي في قلوب الجماهير، أنت باق في نفوس الملايين، أنت خالد في فصول تاريخنا المجيد.. فوداعا ياهواري بومدين الوداع يابومدين )
14 -  وفي الخلاصة وكما هو معروف فإن بناء الدولة ليس الهياكل وحدها وإنما هو مشروع متكامل بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها وهو ما كان حاضرا لدى الرئيس الراحل بومدين  من حيث التصور والانجازات العملية  التي يشهد بها سجل فترة قيادته  للبلاد سواء على مستوى اعادة ارساء بناء الدولة  والتنمية الوطنية  الشاملة بكل أبعادها ، أو في ما يخص مكانة الجزائر الدولية  التي أصبحت رائدة بين الأمم الناهضة ، وفي المجمل  يمكن القول ان الراحل بومدين قد استلم قيادة البلاد غداة استرجاع السيادة الوطنية وهي تواجه تحديات صعبة ومعقدة لا حصر لها،  خزينة شبه فارغة ، أفواه الملايين جائعة ملايين البشر في حاجة الى  سكنات تليق  بهم  وتخلصهم من الاكواخ  غير الصالحة ، وفي حاجة ماسة الى العلاج ، وملايين الاطفال في حاجة  أيضا الى التمدرس  وغيرها من الاحتياجات الاساسية للمجتمع، وبعد عشرية ونيف من الزمن مات بومدين، ومهما كانت النقائص  في مسيرة هذا الرجل في اعادة بناء صرح  الدولة وهي موجودة بالتأكيد، فانه ترك  الجزائر تتوفر على كل المؤسسات الدستورية المنتخبة من المجالس البلدية الى رئاسة الجمهورية  مرورا بالمجالس الولائية والمجلس الشعبي الوطني ، الآلاف من المؤسسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، عديد الجامعات والمعاهد المتخصصة  والمستشفيات ، وانجاز الكثير الكثير من السكنات المجانية للناس وتكوين العديد من الاطارات  المتخرجة من المعاهد والجامعات الجزائرية ، او تلك الاطارات المتخرجة من الجامعات الاجنبية من خلال البعثات الطلابية التي ارسلت لهذا الغرض ، وهذا ما ساعد على سد الكثير من الثغرات  في كل القطاعات وأعطى قيمة اضافية لمسار التنمية وتدعيم بناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة.
 على المستوى الدولي  صارت الجزائر تحظى بمكانة معتبرة وسمعة طيبة ومصداقية كبيرة  في فضاء العلاقات الدولية،  وهي ترافع من أجل حرية الشعوب وكرامتها ومن أجل اقامة نظام اقتصادي دولي جديد يحفظ مصالح  دول العالم الثالث، ويكبح جماح تسلط وهيمنة القوى الكبرى عليها وعلى ثرواتها، وذلك انطلاقا من تمسك دبلوماسيتها  في تعاطيها مع مختلف القضايا الدولية  بمبادئ سياستها الخارجية  الثابتة مثل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومساندة حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها  (  وقد صارت قبلة كل حركات التحرر في العالم )  وهذا ما عبر عنه الزعيم الافريقي أميلكار كابرال  مؤسس حركة تحرير غينيا بيساو والرأس الأخضر بقوله وقتها : (اذا كانت مكة قبلة للمسلمين والفاتيكان قبلة للمسيحيين فان الجزائر قبلة الاحرار) وما تزال على النهج نفسه ومثال ذلك الدعم المستمر لقضيتي  فلسطين والشعب الصحراوي  وحقهما في تقرير المصير والحرية والاستقلال رغم كل الضغوطات الكبيرة ، والأمر نفسه بالنسبة لحق الشعوب والأمم في السيطرة على مقدراتها وثرواتها،  وهاهي الدولة الجزائرية التي لا تزول بزوال  الأشخاص والحكومات ، كما قال بومدين نفسه ورغم التحولات الاقليمية والدولية الكبيرة  والمحن القاسية التي مرت بها  تواجه مجمل  المتطلبات التي يفرضها تطور المجتمع في الداخل وهي كثيرة ومتنوعة وتحديات البيئة الخارجية وهي كثيرة أيضا ومعقدة ، وفي مقدمتها التداعيات والتحديات التي فرضتها العولمة ، وهيمنة القطب الواحد وهي تحمي سيادتها ومصالحها العليا لا سيما من مخاطر بؤر التوتر والأزمات المحيطة بها  وكل التهديدات والمخاطر المحتملة (  يا جبل ما يهزك ريح  ) وذلك بفضل حنكة قيادتها السياسية ممثلة في رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقه ويقظة قوات الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني  ومختلف  الأسلاك الامنية ، وهي الجهود التي تستحق كل  التحيات والتقدير والعرفان  وتوجب على الجميع التجند كل من موقعه لإسناد هذه الجهود الجبارة والمحمودة  بتشكيل جدار وطني  وجبهة شعبية متينة تتحطم أمامهما  كل المخاطر مهما كان مصدرها  واستهدافها  لتبقى بلادنا الغالية قوية عزيزة مهابة الجانب  كما تمناها الرئيس بومدين ورفاقه في مسيرة البناء والتشييد.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024