استشراف

الدّيمقراطيــة ومنظومتنا التّراثيـة المعرفية

وليد عبد الحي

خلال إعدادي لدراستي «سطوة التّاريخ» التي نشرت عام 2012، تنبّهت لظاهرة في تراثنا العربي الإسلامي، وهي أنّ الفلاسفة اليونان أثروا تأثيرا عميقا في الفلسفة الإسلامية في أغلب مناحيها، إلا في بعدين هما «نظام الحكم السياسي» و»الأدب لاسيما الشعر منه»...وهو ما أيقظ فضولي العلمي بل واستفزّني للبحث في الإجابة عن السّؤال لماذا؟
لقد سيطر أفلاطون وهو الأقرب للروح الشرقية على معظم فلاسفتنا القدماء في بداية رحلة الفلسفة الإسلامية، ثم اكتسحه بعد ذلك أرسطو رغم أنه الأبعد عن الروح العربية الإسلامية، وهو أمر تتجلى دلالاته في قول السهروردي إنّ «إمام الحكمة ورئيسنا أفلاطون»، وهو أمر يعود لانشغال أفلاطون في قدر كبير من تفكيره بالعلم الإلهي والطب الروحاني، وانشغاله بالصّورة والمُثل للأشياء في العقل الإلهي، وهي أمور كانت تتلوى في أعماق العقل الباطن لفلاسفتنا، الذين وقفوا عند نقطة تماس العقل بالروح، ولا شك أن الفارابي كان هو المبادر في حمل الفلسفة من بيت أفلاطون إلى بيت أرسطو.
وسأقف عند الجانب السياسي رغم ما وجدته من قلة التأثير اليوناني في الأدب العربي رغم ما يعتقده طه حسين، وإن كنت تلمست بعض التأثر في مجال النقد الأدبي، وقد يعود ذلك إلى «تعصّب العرب» لشعرهم من ناحية، ولعدم ميلهم لترجمة الشعر لأنه على رأي الجاحظ إذا «ترجم تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه» من ناحية ثانية.
أما في السياسة وبخاصة قضية شكل نظام الحكم (الديمقراطي والأرستقراطي والملكي والجمهوري والأوليجاركي..إلخ)، فلم يلتفت العرب ولا فلاسفتهم لها رغم أنّها شغلت مساحة واسعة من فكر أفلاطون وأرسطو..فلماذا انشغل فلاسفتنا بكل ما كتبه فلاسفة اليونان وأداروا معارك فكرية طاحنة حول ما كتبوا، وقفزوا عن الجانب السياسي لاسيما «نظام الحكم»؟ فالفارابي لم يأخذ في مدينته الفاضلة في هذه النقطة تحديدا (نظام الحكم) إلا صفات الحاكم (أن يكون عاقلا وسليم البدن…إلخ)، هي موضوعات تكتشفها البديهة دون أي عناء...فلماذا انصرف فلاسفتنا عن ما أثاره اليونان في مسألة نظام الحكم بينما أنشغلوا ببقية أفكارهم من ارسطو وأفلاطون وحتى الرواقية والابيقورية؟ هذا هو اللغز.
في تقديري أنّ مسألة الحكم في الإسلام حسمت من البداية، فأهم أركان النظام السياسي (أي نظام سياسي) هي الحاكم (وطريقة اختياره) والدستور (ومضمونه ومن يضعه)، وهما مسألتان لم يتح للمجتمع الإسلامي إبداء أي رأي فيهما، فالرسول جاء «بوحي» من السّماء (طبقا للرّواية الإسلامية)، أي أنّ الحاكم الأول في المجتمع لم يكن للمجتمع أي دور في اختياره بل تمّ اختياره بطريقة ميتافيزيقة، وهو أمر لا يقبل النّقاش أو الجدل من قبل المجتمع بل ليس أمام المجتمع إلا التسليم به..ثم جاء الخلفاء بصفتهم «خلفاء رسول الله» في المرحلة الراشدة..ثم نقل الأمويّون الوراثة الملكية عن الفرس (وهو أمر طبيعي في مجتمع قبلي زراعي»...وبقيت هذه المسألة حتى سقوط الدولة العثمانية، وهو ما حال دون اهتمام الفلاسفة المسلمين بهذه القضية لأنّها «محسومة شرعا أو بيولوجيا بالوراثة المستندة للشرع»، رغم أن بعض الفرق حاولت (كالخوارج) في تعميم الحق بالخلافة لكنهم لم يؤصلوا المسألة فلسفيا..والغريب أن أبا حامد الغزالي اعتبر المسألة (أي اختيار الحاكم من «التوافه»)..مرة أخرى موضوعي هو لماذا لم يهتم فلاسفتنا بقضية نظام الحكم رغم اهتمامهم بكل ما كتبة اليونان عن غير هذا الموضوع..؟ لا أعتقد أنّهم لم يبحثوا الموضوع بسبب الخوف، فابن الرواندي كتب ما هو أخطر كثيرا حول الإسلام ككل..والمعري قال شعرا لو قاله اليوم لشنقوه فورا...ما أعتقده هو أنّ بنية المنظومة المعرفية عند إضفاء القداسة عليها يجعلها خارج نطاق المناقشة... يقول أبو حامد الغزالي وهو من أهم شخصيات التراث ما يلي: «أعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فنّ المعقولات، بل من الفقهيات، ثمّ إنّها مثار للتعصبات، والمُعْرِض عن الخوض فيها، أسلم من الخائض فيها، وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ»..هذا النص يؤكّد ما أردت أن أقوله...وهو الاعتقاد بأنّ القول الفصل في موضوع نظام الحكم قد أغلق.
أما الدستور والذي انشغل به أرسطو طويلا وعقد المقارنات لأنواعه، فلم يثر لدى الفلاسفة المسلمين لا من ابن رشد ولا من طلابه أي انتباه لأنّ «القرآن» هو دستور المسلمين الذي لم يكن لهم فيه أي دور كذلك سوى «فهمه أو حفظه أو تفسيره» لا صياغته..ونظرا لقداسة الحاكم «الرسول» وقداسة الدستور «القرآن» امتنعوا عن الخوض فيهما إلا للفهم أو الحفظ، وهو ما أبعد أنظارهم عن ما يقوله اليونان حول هاتين المسألتين...وبقي الأمر حتى يومنا هذا...أي أن منظومتنا المعرفية التراثية ساهمت في فقرنا السياسي سواء بسبب الخطأ في فهمنا لها أو بسبب بنيتها المعرفية..فالنتيجة واحدة أنّ اختيار الحاكم ووضع الدستور ومضمونه هما أساس الفكر الديمقراطي من الناحية النظرية، بينما توازن القوى الاجتماعية هو الأساس العملي لها، وهي أمور امتنعت علينا فتجذّر الطّغيان فينا...
هناك خلط بين النّظرية في الحكم وبين الرأي العابر...ثم ما زلت أبحث في النقطة المركزية وهي لماذا بحث كل الفلاسفة المسلمين في صفات الحاكم ونسبه و….إلاّ موضوع الطّريقة التي يتم اختياره فيها هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، قضية الدستور رغم أن المسألتين تم مناقشتهما من قبل اليونان..وترجم الفلاسفة المسلمون كل هذه الجوانب من كتب اليونان، ولكنهم عندما جاؤا إلى الاختيار والدستور لم يكتبوا سطرا واحدا عنها....نقلوا ألف ليلة وليلة، وغيّروا حتى شعرهم بالموشحات عندما ذهبوا للأندلس، وتعلّموا الرياضيات والهندسه والطب والكيمياء..ودرسوا ابقراط ونقدوه وأضافوا عليه...لماذا موضوع اختيار الحاكم والذي تسبّب في أكثر أزمات الدولة الإسلامية وفي تمزيقها لم يعالجوه...هذا هو السّؤال؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024