قصة

(عنوان مأساة)

^ بقلم: جمال بورنان

إنه الفاتح من شهر جويلية.. وضعت الهاتف على سريرها المفروش بغطاء زهري بصور زهور بيضاء صغيرة.. أطفأت المصباح وأشعلت المزهرية ذات لون وردي طيف ضوئها ساطع على الجدار الأصفر، فأعطى لونا ممزوجا بين أنوثتها و تفاؤلها وطيبتها.. رمت بنفسها على السرير متعبة منهكة من الأشغال المنزلية.. فاليوم كان تكرارا روتينيا كباقي أيامها، تقضيه بطوله بين طبخ وغسل وتنظيف وترتيب... أخذت هاتفها بيدها الناعمة الرقيقة عليها نقوش حنة عربية جميلة.. تنبثق من تنورتها رائحة عطرها المستخلص من أزهار البابونج وبين رائحة ناتجة من غسيل صحون العشاء الذي انتهت منه توا.. فأنتجت رائحة ربة بيت ماهرة ممزوج بعبق رقتها وجمالها الشاحب المتعب.. شكّلت رقمه لتتصل به.. دار برأسها تفكير.. فألغت الاتصال فورا.. تنهدت.. وأخذت تقرأ رسائلهما المتبادلة سابقا.. فهي لم تحذفها أبدا.. وكأنها مقدسة في قلبها الذي امتلأ كأسه حتى الثمالة من حبها وعشقها لصابر رجل حياتها وأمير أحلامها وقائد طموحها وآمالها.. ربما كانت تراه هكذا سابقا.. وربما مازالت أيضا.. إنها لا تدري حقيقة مشاعرها اتجاهه الآن فقلبها تائه كبجع هرم فاته سربه.. سرحت بعقلها بعيدا بين ذكريات ماض حلو مر وغيابات مستقبل مظلم مجهول.. تدور بفكرها في دوائر مفرغة وحلقات دون نهاية بلا خروج أو منفذ.. وكأنها تهوي في بئر بلا قاع.. في قوقعة فارغة مخيفة مظلمة.. بدأ التفكير المتواصل تبدو أعراضه على وجهها الذي أضحى شاحبا مصفرا بتجاعيد خفيفة.. تجاعيد تروي قصة معاناة وصبر وطول ترقب وكثرة الضغوط من حولها.. فهي قضت واحدا وثلاثين ربيعا من عمرها.. ولم تتزوج بعد.. في مجتمع ينبذ العوانس.. يلومهن تارة ويسخر منهن تارة أخرى وكأنهن الجانيات!!.. أخذ فكرها يسرح بعيدا إلى درجة تنسى نفسها كطير يحلق في الأفق بعيدا ولا يزال إلا ويبتعد حتى يختفي عن الأنظار.. صدرها يضيق وكأن روحها تتكمش وتتقلص.. تتنهد كثيرا بزفير يحاكي حكايتها البائسة وعيناها العسليتان الجميلتان متوسعتان وجسمها الرقيق جامد، كجثة هامدة مرمية على سرير الإنعاش..منهكة من الواجبات المنزلية التي تقع كلها على عاتقها كحمل بعير و من إدمان التفكير في الواقع المؤلم..فأمها أضحت مسنة مريضة عاجزة، تلزم غرفتها طوال الوقت.. تبكي ما آل إليه وضعها بعد معاناة سنين طويلة بتربية أبناءها الثلاث.. ابنتها التي صارت حديث النساء عن عنوستها وسوء حظها رغم ما تملكه من مقومات.. فهي جميلة ومثقفة تحمل شهادة جامعية عليا وأوقفت تدريسها لتتكفل بها..كذلك إبنها صاحب 24 عاما بطال بلا دراسة أو عمل، فقط يجوب الشوارع طولا وعرضا.. وصغيرها صاحب 20 ربيعا طالب جامعي ومصاريفه الجامعية أثقلت كاهلها.. كما أنها تبكي حظها لشبابها الذي أفنته بتربيتهم وحيدة دون زوج حام لها و لأولادها، دون دعامة و هيبة زوج.. فالمسكين توفي منذ زمن بعيد بحادث عمل، حيث تركها حاملا بابنهما الصغير.. وهم الآن يقتاتون من نفقة الضمان الإجتماعي.. شابتنا الجميلة الرقيقة أصبحت آرقة لا تنام.. أفكارها كلها تصب في مجرى واحد.. كيف أن صابر لم يتزوجها بعد.. رحلة 6 سنوات علاقة عاطفية سرية دون رسميات.. وكيف أنه لم يتقدم و لو لخطبتها ليكف ألسنة الناس عنها و كيف لم يشأ أن يشهرا علاقتهما علنا وعلى سنة الله ورسوله!!.. فعلا الحنونة الضائعة حيرتها تذيب الصخور!!.. ووضعها يثير شفقة الصغير والكبير.. فجأة إهتز هاتفها.. رسالة قصيرة.. من عند صابر.. فتحتها..( أمال، أنا آسف لم أتصل بك منذ ثلاثة أيام، كنت مشغولا وأنا الآن متعب وأحتاج النوم، سأتصل بك غدا، تصبحين على خير).. ما زادتها رسالته إلا ضيقا و قلقا.. كيف لا يربو على قلبها هذا الإحساس الرهيب وهي تتصل به منذ 3 أيام دون رد أو معاودة اتصال!!..
يتبع...

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024