يَحيَى الفَخَرَانِي على الخَشَبَة مِن جَديد

” أدرينالين المَسرَح” يَنفخ الحَياةَ في جَسَدٍ أثقَلَتهُ السّنون!..

بِقَلَم: عَمَّار قواسمية

 اُفتُتِح قَبل أيَّامٍ العَرض الثالث لمَسرحية “الملك لير” من بطولة الفنان القدير “يحيى الفخراني”، على خشبة المسرح القومي بالقاهرة، وسط حُضور كثيف ونَهَمٍ جماهيريّ لا تُخطِئُه العَين. وهذا بعد غِيابٍ امتد لسنوات عن هذا النصّ الشكسبيريّ المَهيب، الذي يُعَدّ من أعتَى اختبارات التمثيل وأشَدِّها على الجَسَد والنَّفس. ويُذكَر أن هذه الإعادة تأتي في سياق احتفائيّ، تُعيدُ فيه فرقة المسرح القومي تقديم روائعها الخالدة. وقد أشرَفَ على الإخراج هذه المرة المُخرِج “شادي سرور”، مُستَنِدًا إلى رؤية جديدة تجمع بين الأصالة والتقنية المعاصرة.
ومِن أغرَبِ ما يَشغَلُ العُقول، ويَستثَير التساؤلات، أن تَرَى شَيخًا هَرِمًا يَتَّكِئُ على عَصاهُ في يَومِه العادي، فَإذَا اعتَلَى خشبة المَسرح، تَجَلّى أمامك شابّا فُتُوَّى، ناطقًا جَهورِيَّ الصوت، فَصيح العبارة، شَديد الحُضور، لا تكاد تَرَى في حركته وهنًا، ولا في وقفته ضَعفًا
هذا هو المَشهد الذي أثار الجَدَل بشأن الفنان الكبير “يَحيَى الفخراني”؛ إذ كيف لِرَجُلٍ جاوز الثمانين، أن يُؤدّي دور الملك “لير” - بكل ما يَحمله من مَشَقَّةٍ جسدية وعاطفية وتمثيلية - دُون الحاجة إلى عَصاه التي لا تُفارقه في حياته اليومية؟!!
هذا التساؤل -الذي طُرِحَ بعَفويَّةٍ من جمهور المُشاهِدِين وروّاد منصات التواصل- هو في حقيقته إشكالية مركزيّة في عِلم الأداء المسرحي (Theatrical Performance Studies)، وتَحديدًا في فَرع ما يُعرَف بِـ “التَّحَوُّل الأدائي” (Performative Transformation)، وهو المَفهوم الذي دَرَّسَه وَتَوَسّع فيه “ريتشارد شيخنر” (Richard Schechner) -رائد الدراسات المسرحية المعاصرة - في نظريته عن “الأداء بِوَصفِهِ انتقالًا شعائِرِيًّا يُفضي إلى التحَوّل”.
وقَد صَرَّح الفخراني في حواره مع الإعلامي “أسامة كمال” بأن ما يَحدُث له يُعزَى إلى ما أسماه بِـ«أدرينالين المسرح”، وهو تَعبير شَعبِيّ يُقابِل اصطلاحًا عِلمِيًّا أدَقّ، هو “حالة التدفق” (Flow State) التي تَحَدَّثَ عنها عالِم النَّفس ميهالي روبرت كسيكسزنتميهالي (Mihaly R Csikszentmihalyi)، ويَقصِدُ به الانغماس الكامل في فِعلٍ إبداعيّ، بحيث يَغيب الوَعي بالألم، والقلق، والقيود الجسدية..!
وَقَدَّم الفخراني، في مَعرِض حَديثه، شاهِدًا من تجربة الفنانة “أمينة رزق” - أيقونة المسرح العربي - حين بَدَت واهنةً ضعيفةً في الكَواليس، لا تَقوى على المَشي، ثم ما لَبِثَت أن نَهَضَت كَعَنقاءٍ سَماؤُها المَسرَح، تُلقي خِطابها بأداءٍ خالِد، هَـزَّ أركان القاعة..! تلك المُفارَقة، التي حَيَّرت الفخراني نَفسَه، تُؤَكِّدُ ما ذَهَبَ إليه “قسطنطين ستانيسلافسكي” (Konstantin Stanislavski) حين قال: “ما مِن شيء يُحيِي المُمَثِّل كَحَماسِ الجُمهور وأضواء المَسرح”!..
وهُنا نَفتَح نافِذةً للتأمل العِلميّ: لَيسَ المَسرح حَيّزًا للعَرض فقط، بل هو فَضاء نَفسِيٌّ واجتماعيّ تتحرر فيه الذَّات من أَسر الجَسد. وهذا ما يُفَسِّرُ كيف أن الأداء التمثيلي لا يَخضَع فقط لقوانين البيولوجيا والفيزيولوجيا، بل يتجاوزها إلى آلِيَّات “التَّمَثُّل” (Mimesis) و«التحفيز العاطفي” (Emotional Arousal) و«التَّقَمُّص” (Empathy). وقد أثبَتَت دراسات حديثة في عِلم النَّفس العَصَبي (Neuropsychology) أن العقل يُفرز هرمونات التحفيز والمُقاوَمة مثل الإندورفين (Endorphins) والدوبامين (Dopamine) في حالات الأداء المُباشِر أمام الجُمهور؛ مِمَّا يُخَفِّف الشُّعور بالألَم ويَزيد النَّشاط..!
ومِن شَواهد هذه الظاهرة في المَسرح العالَمي، ما وَرَدَ عن “لورنس أوليفييه” (Laurence Olivier)، حين كان يُصارع مَرَضًا عُضالًا، ثم يَتَّقِدُ على المسرح كأنه فارس، بل إن “سارة برنار” (Sarah Bernhardt) فَقَدَت ساقها، ولكنها استَمرت في تأدية أدوارها بقَدَمٍ صِناعِيَّة، وما أنقَصَ ذلك من سِحر أدائها شَيئًا. أما في المسرح العربي، فقد عرفنا أمثلة حَيَّةً قبل الفخراني ورِزق، كالفنان “عبد الوارث عسر”، الذي كان يُعاني من أمراض مُزمِنة، لكنه كان يَتَقَمَّصُ شخصياته على المسرح بكامل طاقته، حتى كأن المسرح يَنفُخ في جسده حَياةً أخرى..!
وفي ما قَلَّ وَدَلَّ، أقول ما قاله “بيتر بروك” (Peter Brook): “المسرح هو المكان الوحيد الذي تموت فيه الأنا، وتُولَد الشخصية”؛ فالخشبة ليست سَطحًا من الخَشب، بل ساحةٌ تَتَجَسَّدُ فيها الهُويَّات، وتنهض فيها الأرواح، ولو انكَسرَت الأجساد. والمُمَثِّلُ -حين يعتلي الخشبة- يُسَلِّمُ زِمام أمره لِقِوًى أكبَرَ من عَضَلاته وعِظامه: إنها قوة الفَنّ، وسِحر التقمّص، والشغف الذي يُعيد للرُّوح ألَقَها، وللجَسَدِ عافِيَته

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19820

العدد 19820

السبت 12 جويلية 2025
العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025
العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025