صدر عن دار كلاما للنشر والتوزيع العمل القصصي الجديد للكاتب والطبيب إلياس لعرافة بعنوان “اثنتا عشرة قيامة لعازر”، وهو عمل يضع نفسه في قلب الأدب الإنساني المقاوم، في زمن باتت فيه الكتابة تنجرّ غالبا إلى التوثيق اللحظي والخطاب المؤدلج. تأتي هذه المجموعة كصرخة هادئة، لا تحمل صدى الشعارات والخطب، بل تنصت إلى ما هو أعمق: الإنسان وسط الركام، صوته الخافت، ووجعه الذي لا يرى.
بأسلوب سرديّ خالٍ من الزخرفة، تنسج قصص لعرافة عوالم شخصيات فلسطينية تنبض بالحياة رغم أنها محاطة بالموت من كل جانب. قصص تكتب وجع غزة من الداخل، لا بوصفها قضية قومية أو مادة إعلامية، بل كحالة إنسانية خالصة، يتقاطع فيها الحب واليأس، الأمل والانكسار، الغضب والصبر. يضع الكاتب قارئه أمام شخصيات تمشي فوق الركام، تسير بين قذيفتين، وتحب رغم ضيق الوقت، وتكتب لتنجو من المحو.
السّـرد كفعــل مقاومــة
في كل قصة من القصص الاثنتي عشرة، تولد قيامة جديدة، قيامة لا تأتي كمعجزة، بل كفعل مقاومة ناعم، يتسلّل عبر تفاصيل الحياة اليومية البسيطة: ابتسامة، صلاة، لحظة تأمل، أو حتى مشهد من روتين مقهور. العنوان، الذي يحيل إلى لعازر، صديق المسيح، ليس تزيينيا، بل مدخل دلاليّ لقراءة النصوص بوصفها محاولات متكررة لانتزاع الإنسان من ظلال الموت، ومن الرماد الذي تتركه الحرب. في هذه القيامات، لا نجد بطولة صاخبة، بل صمودا صامتا، وشجاعة لا تحتاج إلى تسويق.
مـن الطــب إلى الأدب.. ومـن الجسـد إلى الــــرّوح
بين ممارسة الطبّ وعلاج الأجساد، تنمو لدى لعرافة حساسية خاصة في فهم الألم وتفكيك مساراته. فهو لا يكتب عن الحرب، بل يكتب من داخلها، بعيون شاهدة لا تتهرب من التفاصيل ولا تنجرّ إلى التعميم. هو يلتقط لحظات الانكسار البسيطة التي تمرّ عادةً بلا انتباه، ليجعل منها مساحة للتأمل، ومساحة للمرافعة عن إنسان فقد كل شيء، إلا كرامته. لا استعارات تجمّل الألم، ولا لغة عالية تخدر الإحساس، بل كتابة مشبعة بالحقيقة، وبما يشبه الهدوء الموجع.
إلياس لعرافة، من مواليد قالمة سنة 1989، يشتغل طبيبا مختصا في علاج السرطان بالأشعة في المستشفى الجامعي بعنابة. هذا العمل الجديد يأتي بعد ثلاث تجارب أدبية، من بينها رواية ومجموعتان قصصيتان، كرّست حضوره في المشهد الأدبي الجزائري كصوتٍ يجمع بين التجربة المعرفية والكتابة الوجدانية. نال لعرافة جائزة “دنيا بوحلاسة للقصة القصيرة” سنة 2022 عن نصه “الجمال الخفي للموت”، كما تُوّجت روايته “ثنائية الحركة والسكون أو حقيقة المدعو H« بجائزة رئيس الجمهورية للكتابة الإبداعية عام 2024.
الأدب كوجــه إنسـاني للقضيـة
«اثنتا عشرة قيامة لعازر” ليست فقط مجموعة قصصية، بل هي وقفة تأمل في معنى الإنسان تحت نيران الحرب، وفي قدرة الكلمة على أن تكون ملاذا أخيرًا. كل قصة بمثابة محاولة لإعادة تشكيل المعنى، لمقاومة الصمت، ولمخاطبة الضمير العالمي من دون ادعاء أو ضجيج. هي قصص ضد الحرب، لكنها لا تصرخ. تقف في صف الإنسان، دون أن تدّعي بطولته. تقف معه في ضعفه، في خوفه، وفي محاولاته البسيطة لالتقاط لحظة حب، أو تنفّس حرية، أو كتابة اسم، قبل أن يُمحى من الجدران ومن الذاكرة. بصدر عار وقلم شجاع، يقدّم إلياس لعرافة هذا العمل كقيامة سردية في وجه العدم، وكسؤال مفتوح عن جدوى الأدب حين يصبح الواقع أكبر من الخيال.