الثقافـة ليست ترفـــًا.. بـل ضرورة لمواجهة التزييـف والتحريــــف
في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، وهيمنة الخوارزميات والمحتويات الترفيهية، دعا الدكتور خليل بن عزة، الباحث في الإعلام الثقافي والاتصال، إلى إعادة الاعتبار للإعلام الثقافي كرافعة أساسية في بناء الوعي الجمعي وتعزيز المواطنة. ولفت في تصريحه لـ«الشعب”، أن هذا القطاع يعيش اليوم ما وصفه بـ«فجوة الرؤية وضعف التخصّص”، في وقت تتشابك فيه وسائط الإعلام وتتغير أنماط الاستهلاك الثقافي بشكل جذري.
أكّد الدكتور بن عزة أن الإعلام الثقافي يواجه تحديات نوعية تتطلب إعادة ترتيب الأولويات، وإعادة صياغة الأدوات والأساليب، لمواكبة السياقات الجديدة التي تفرضها الوسائط الرقمية التفاعلية، خاصة في ظل انفتاح المشهد الثقافي على فاعلين جُدد ومنصات غير تقليدية.
وأشار إلى أن الثقافة لم تعد حكرا على النخب، ولا حبيسة المنابر الورقية أو البرامج الكلاسيكية، بل أصبحت تتوزّع وتتفكك أحيانا داخل فضاءات مثل منصات التواصل الاجتماعي، تطبيقات البث، الفيديوهات القصيرة، البودكاست، وحتى الذكاء الاصطناعي التفاعلي، ما يستدعي ـ بحسبه ـ الانتقال من منطق الجماهيرية إلى منطق التفاعلية، ومن الأحادية إلى التعددية.
وأوضح أن الإعلام الثقافي، على الرغم من بعض المبادرات الإيجابية التي تستحق التثمين، لا يزال يعاني من التهميش في وسائل الإعلام الجماهيرية، سواء من حيث الزمن المخصص له أو من حيث نقص الكفاءات المتخصصة القادرة على إنتاج محتوى نوعي. وأضاف: “غالبا ما يُنظر إلى البرامج الثقافية كمجرد زينة، بدل اعتبارها عنصراً استراتيجياً في بناء الوعي وصون الذاكرة الحضارية”.
ولفت الدكتور بن عزة الانتباه إلى أن الخطاب الثقافي نفسه بحاجة إلى التجديد، إذ يعاني من النمطية والانغلاق، ولا يواكب تحوّلات الذائقة لدى فئات واسعة من المجتمع، خصوصاً الشباب من أجيال الألفية وYوZ وألفا، داعيا إلى تطوير المفاهيم وأساليب السرد والتواصل مع الجمهور.
وفي حديثه عن الفرص التي تتيحها الوسائط الجديدة، قال: “وسائط الإعلام الرقمي تتيح فرصاً غير مسبوقة لتحرير الثقافة من أسر البيروقراطية الإعلامية”، مشيرا إلى أنها تمكّن من إنتاج واستهلاك الثقافة بمرونة، والوصول إلى جمهور متنوّع وعابر للحدود. لكنه شدد على أن هذه الفرص لا تُستثمر تلقائيا، بل تتطلب وعيا إعلاميا قادرا على توظيف الوسائط الرقمية لإنتاج محتوى تفاعلي وجذاب، يحترم المعايير المهنية والقيم الحضارية.
وأكد محدّثنا أن الإعلام الثقافي اليوم يمكنه، من خلال الوسائط التفاعلية، أن يتحوّل من مجرد ناقل للمعلومة إلى فاعل مؤثر في النقاش العمومي، ومساهم في صياغة الذوق العام، ومحفّز للتفكير النقدي، مشدداً على ضرورة إدماج الثقافة في السياسات الإعلامية، وتكوين جيل جديد من الصحفيين الثقافيين الملمين بأدوات السرد الرقمي والقراءة المتقاطعة للخطابات.
أما عن أبرز التحدّيات التي تعيق تطوّر الإعلام الثقافي، فأشار إلى “هيمنة الترفيه وسطوة الخوارزميات”، موضحاً أن الخطاب الثقافي يُهمّش في البيئة الرقمية لصالح محتويات سريعة الاستهلاك ومدرّة للربح، تدعمها الخوارزميات. وأضاف: “فقاعة التريندات وسطوة الرأي السريع تقلّلان من فرص ترسيخ محتوى ثقافي يتطلب التأمل والفهم”، محذّرا أيضا من مخاطر التزييف المعلوماتي، وانتشار الأخبار الزائفة والمحتويات غير الموثوقة معرفياً.
وختم الدكتور خليل بن عزة تصريحه بالتأكيد على أن “إعادة الاعتبار للإعلام الثقافي أصبحت ضرورة، لا باعتباره قطاعا هامشيا أو ثانويا، بل كعنصر جوهري في معركة الوعي والمواطنة والأمن الفكري”، مضيفاً أن “الثقافة لم تكن يوما ترفا، بل هي درع المجتمع، ومرآته، ومحركه نحو النماء في مختلف مجالات الحياة”.