ساعد سعيد يروي “أسطورة الأغنية الشعبية”

عمـر الزاهي.. شاعــر العزلة وشيخ التجديد

فاطمة الوحش

استضافت الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي، مساء أول أمس، الكاتب والإعلامي ساعد سعيد بدار عبد اللطيف، في لقاء أدبي خُصص لتقديم كتابه الجديد “عمر الزاهي، أسطورة التجديد في أغنية الشعبي، وقد شكّل هذا الموعد الثقافي فرصة فريدة لاستحضار سيرة ومسيرة واحد من أبرز أعمدة الأغنية الشعبية الجزائرية، الفنان الراحل عمر الزاهي، من خلال قراءة في عملٍ توثيقي يعيد الاعتبار لفنه ومسلكه الإنساني المميز.

الكتاب الذي يقع في 120 صفحة، يمثّل ثمرة سنوات من البحث والتقصي، مدفوعة برغبة الكاتب في الاقتراب من “رجل استعصى على السرد والتأريخ”، كما أشار في مقدمته.
وبحسب المؤلف، فإن عمر الزاهي لم يكن مجرد فنان شعبي، بل حالة فنية وإنسانية نادرة، تتجاوز حدود المقامات والأوزان لتلامس جوهر الحياة اليومية للناس البسطاء. وقد لفت الكاتب إلى أنه لم يسعَ إلى تقديم سيرة مثالية، بل حاول “القبض على الحقيقة من خلال شهادات الذين عرفوه عن قرب، ولامسوا صمته أكثر من كلماته”.
في هذا الكتاب ينقل المؤلف القارئ إلى طفولة الزاهي في حي “الرامب فالاي” الشعبي، حيث تشكلت شخصيته الفنية الأولى وسط أجواء صاخبة بالفقر والموسيقى. ومن هناك، يبدأ في تتبع خطواته نحو مقهى “حوشين”، الذي كان في الخمسينيات فضاء يجمع أهم أصوات الشعبي الواعدة. وهناك، تتقاطع حياة الزاهي مع أسماء كبرى مثل الشيخ لحلو وقدور بشطوبجي، الشيخ القبائلي، ثم لاحقًا مع محبوب باتي، الذي آمن بموهبته وساعده على شق طريقه.
لكنّ عمر الزاهي لم يكن مغنيا تقليديا، حيث قال المؤلف إن الزاهي “لم يكتفِ بترديد التراث، بل أعاد تشكيله بروحه”، مؤكدا أنه “أحدث في فن الشعبي ثورة هادئة، قائمة على الارتجال والتبسيط والانفعال اللحظي”. ورغم تأثره ببوجمعة العنقيس في بداياته، إلا أنه سرعان ما انفصل عنه أسلوبيا، وابتكر أداء خاصا به، يبتعد عن التعقيد دون أن يفرط في العمق. وأشار المؤلف إلى أن الزاهي كان يملك قدرة استثنائية على “توليد الشجن من أبسط جملة لحنية”، ما جعل أداءه أقرب إلى وجدان المستمع العادي من أي تنظير موسيقي.
أما الجانب الإنساني من شخصية الزاهي، فقد كان أكثر تعقيدا. يقول ساعد سعيد: “كيف يمكن أن تكتب عن رجل عاش عمره هاربًا من الأضواء؟”. فعلاقة الزاهي بالإعلام كانت شبه معدومة، ولم يجرِ سوى حوار صحفي واحد في حياته، تم في عام 1987 على يد الصحفي محمد كشاط بعد إلحاح طويل. وقد أوضح المتحدث، أن هذا العزوف لم يكن نابعا من غرور، بل من موقف فلسفي عميق من الشهرة، حيث رفض الفنان بشكل قاطع كل أشكال التكريم أو التقدير الرسمي، وفضّل حياة بسيطة، يكاد يلامس فيها الزهد.
وفي إحدى الشهادات المؤثرة، ينقل المؤلف قصة الزاهي مع فتاة من الحي اسمها زينب، أحبها ورفض والدها تزويجها له بسبب حالته المادية. وأشار سعيد، إلى أن هذا الرفض ظل جرحا عاطفيا مفتوحا في قلب الفنان، وهو ما يفسّر الصدق المؤلم في كثير من أغانيه. وقال: “لقد غنّى عن الحب لأنه فقده، لا لأنه امتلكه”، مضيفا أن زينب لم تتزوج قط، وبقيت على وفائها لذكراه.
ويتطرق الكتاب أيضا - بحسب مؤلفه - إلى العلاقة الخاصة التي جمعت الفنان بجارته فتيحة، التي لم يتبنّها رسميا، لكنها كانت أقرب الناس إليه، ووريثته بعد وفاته. وقد أشار المؤلف إلى أنها “كانت صوته حين يصمت، وابنته حين ينكر الأبوة”، مؤكدا أن هذه العلاقة لم تكن عابرة، بل تمثل مفتاحا لفهم الزاهي في سنواته الأخيرة.
كما ذكر ساعد سعيد أن “الزاهي ترك أثرا عميقا في نفوس مستمعيه. لقد غنّى للناس، لا للتاريخ، لكنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه”. وأضاف أن الاعتماد على شهادات شخصيات مثل لونس آيت عودية ويحيى بورابة ورباح حوشين كان ضروريًا لتجاوز صمت الوثائق وغياب الأرشيف الشخصي للفنان.
وختم الكاتب، بأن هذا العمل ليس محاولة للتأريخ فحسب، بل هو أيضا “رسالة وفاء لرجل أحب الناس، فأحبوه دون أن يروه كثيرا”، مضيفا: “كتبت هذا الكتاب لأسمعه، لا لأقرأه فقط، كل جملة فيه كتبتها وفي أذني مقام، وفي قلبي نبرة شجن”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19763

العدد 19763

الأحد 04 ماي 2025
العدد 19762

العدد 19762

السبت 03 ماي 2025
العدد 19761

العدد 19761

الأربعاء 30 أفريل 2025
العدد 19760

العدد 19760

الثلاثاء 29 أفريل 2025