بين الرّوائي وكاتـب السيناريـو

الاقتبــاس السّينمائـي والصّراع الفني

بقلم: بلغيث عبد الهادي كاتب سيناريو

 الاقتباس السينمائي هو عملية تحويل عمل فني من صيغة إلى أخرى، غالبًا ما يكون من عمل أدبي مكتوب (مثل رواية أو قصة قصيرة) إلى عمل سينمائي. يتضمن هذا التحويل إعادة صياغة القصة بأكملها لتناسب الوسيلة السينمائية، مع الحفاظ على روح العمل الأصلي قدر الإمكان. 


يمثّل الاقتباس السينمائي لعمل أدبي، لا سيما الرواية، تحديًا فنيًا وإبداعيًا يتطلب موازنة دقيقة بين أمانة النص الأصلي وحرية التعبير السينمائي. هذا التحدي يولد في كثير من الأحيان صراعًا إبداعيًا بين كاتب السيناريو والروائي، حيث يسعى كل منهما إلى تحقيق رؤية فنية خاصة به ضمن قيود العمل الأدبي الأصلي.
يشكّل الاقتباس السينمائي للرواية ساحة صراع مستمرة بين كاتب السيناريو والروائي، حيث يتقاطع إبداعهما في نقطة تحول النص الأدبي إلى سيناريو هذا الصراع، وإن بدا ظاهريًا كصراع على السيادة الفنية إلا أنه في جوهره يعكس اختلافات عميقة في طبيعة العمل الإبداعي لكل منهما. يرى الروائي في روايته كيانًا أدبيا متكاملًا، يحمل في طياته رؤيته الفنية الشاملة، ويخشى أن يفقد اقتباسها الكثير من عمقها ودقتها في التحليل النفسي للشخصيات وبناء العوالم الروائية. يعتقد الروائي أن السينما بوصفها لغة سمعية وبصرية تعتمد على الصورة والصوت بشكل أساسي، قد لا تستطيع نقل تعقيدات النص الأدبي بالشكل المطلوب، وأن الترجمة السينمائية قد تكون نوعًا من التبسيط أو الخيانة للنص الأصلي.
من جهة أخرى، يرى كاتب السيناريو في الاقتباس فرصة لإعادة صياغة النص الأدبي وتقديم رؤية جديدة له، مستفيدًا من إمكانيات السينما في خلق عوالم بصرية متكاملة، واستخدام لغة الصورة والصوت للتعبير عن الأفكار والعواطف. يعتقد كاتب السيناريو أنّ الاقتباس ليس عملية نسخ ونقل حرفي للنص، بل هو عملية إعادة تأويل للنص الأدبي، حيث يتم النظر إليه من منظور جديد وتكييفه مع لغة السينما.

المنتــج السينمائـــي..صانـع قـــرار

 قبل التطرق للصراع الفني بين كاتب السيناريو والروائي علينا التحدث عن العوامل التي يأخذها المنتج السينمائي في الاعتبار عند الاقتباس السينمائي هناك معيار مهم هو الشهرة والجماهيرية، هذا المعيار يرتكز على عدة نقاط أساسية أهمها:
- شهرة الروائي: وجود قاعدة جماهيرية كبيرة للروائي يزيد من احتمالية وجود جمهور مستعد لمشاهدة فيلم مقتبس من أعماله.
- نجاح الأعمال السابقة: نجاح الأعمال السابقة يشير إلى قدرة الروائي على خلق قصص مشوقة تجذب الجمهور.
- مبيعات عالية: المبيعات المرتفعة مؤشر على أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالقصة، وأن هناك جمهورًا مستعدًا لدفع المال لقراءتها.
- جوائز أدبية: الفوز بجوائز يعتبر تأكيدًا على جودة العمل الأدبي وقيمته الفنية.
- النوع الأدبي: الأنواع الأدبية مثل الخيال العلمي، الرومانسية، التشويق، الجريمة والغموض عادة ما تجذب جمهورًا واسعًا وتحقق إيرادات مرتفعة.
يولي المنتج السينمائي أهمية كبيرة لمجموعة من المعايير التي تضمن النجاح التجاري للفيلم، حيث تُعد الروايات ذات الانتشار الواسع وسيلة فعالة لزيادة فرص تحقيق أرباح مرتفعة. فاختيار عمل أدبي معروف يقلل من مخاطر الفشل المرتبطة بإنتاج فيلم جديد، نظرًا لوجود جمهور متابع ومهتم، مما يساهم أيضًا في تسهيل جهود التسويق. وفي ظل وتيرة التغير السريعة التي يشهدها عالم السينما، تظل معايير الشهرة والجماهيرية عناصر أساسية في رسم ملامح مستقبل الأفلام المقتبسة. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتغير أذواق المتلقين، يُتوقع أن تطرأ تحولات على هذه المعايير، حيث قد يُصبح التفاعل الرقمي والاتجاهات الشائعة على المنصات الرقمية مؤشرات حاسمة لقياس مدى شعبية العمل الأدبي وجاذبيته لجمهور واسع.

الصــّراع بــين الرّوائــي وكاتـب السيناريو

 يتجلّى الصراع بين الروائي وكاتب السيناريو في عدد من الإشكالات المعقدة، أبرزها ما يلي:
1- الأمانــة للنّـص الأصلـي:
يحرص الروائي على الحفاظ على الجوهر الفني والأدبي لعمله، باعتباره تعبيرًا عن رؤيته الذاتية وتجربته الإبداعية. في المقابل، يُضطر كاتب السيناريو، في كثير من الحالات، إلى إجراء تعديلات بنيوية وجوهرية على النص الأدبي بهدف تكييفه مع متطلبات الفن السينمائي، مما قد يؤدي الى تغيير الرؤية الفنية والجمالية التي أرادها الروائي.
2- حـــدود الحريــة الإبداعيــة:
يُعد كل من الروائي وكاتب السيناريو فاعلًا إبداعيًا مستقلاً، غير أن عملية الاقتباس تضع كاتب السيناريو أمام إكراهات متعددة، أهمها ضرورة التوفيق بين الحفاظ على روح النص الأصلي من جهة، وإعادة إنتاجه وفقًا لشروط الوسيط السينمائي (السناريو) من جهة أخرى. وهو ما يخلق توترًا بين الأمانة للنص والمقتضيات الفنية والإخراجية للعمل السينمائي.
3- اختلاف الجمهور وتبايــــن التّوقّعـــات:
ينتمي قرّاء الرواية إلى فئة تميل إلى التعمق في البنية السردية واستكشاف المعاني الرمزية، في حين يميل جمهور السينما إلى البحث عن الإيقاع البصري والحبكة المشوقة. هذا التباين في التلقي يفرض على كاتب السيناريو مسؤولية مزدوجة تتمثل في تحقيق التوازن بين عمق النص الأدبي ومتطلبات الجذب السينمائي، بما يضمن رضا كل من متلقي الرواية ومتابعي العمل السينمائي.
تحديــات الاقتبـاس السّينمائـــي
 هناك بعض المعايير التي قد تجعل رواية معيّنة أقل ملائمة للاقتباس السينمائي، وتشمل:
- التركيز الشديد على العالم الداخلي للشّخصيات: الروايات التي تعتمد بشكل كبير على وصف أفكار ومشاعر الشخصيات الداخلية قد تواجه صعوبة في الترجمة إلى لغة بصرية، حيث أن السينما تعتمد بشكل أكبر على الإيماءات والتعبيرات الوجهية لإظهار الحالة النفسية للشخصيات.
- الرّوايات ذات الطابع الفلسفي المعقد: الروايات التي تتعمق في الفلسفة والمعاني المجردة قد يصعب ترجمتها إلى لغة سينمائية بصرية، حيث أن السينما تتطلب سردًا مباشرا و غير معقد.
- الرّوايات التي تعتمد بشكل كبير على الوصف التفصيلي: الروايات التي تحتوي على كمية كبيرة من الوصف التفصيلي للأماكن والأشياء قد يكون من الصعب ترجمتها إلى مشاهد سينمائية بشكل كامل، حيث أن الوقت المحدود للفيلم قد لا يسمح بذلك.
- الرّوايات التي تعتمد بشكل كبير على اللغة الشعرية والمجاز: اللغة الشعرية والمجازات قد يصعب ترجمتها إلى صور مرئية بشكل مباشر مثل هذا الوصف: “رأيته يمضغ في حزنه، أو حمل قلبي حنينا أعمق من المحيطات وأشواقا أطول من الزمن”، حيث أن السينما تتطلب لغة أكثر واقعية ومباشرة.
- الروايات التي تعتمد على عناصر خفية وغير ظاهرة: الروايات التي تعتمد على الإيحاء والتلميح وتترك الكثير من التفاصيل مفتوحة للتفسير قد يصعب ترجمتها إلى لغة سينمائية، حيث أن السينما تتطلب تقديم معلومات أكثر وضوحًا للمتلقي.
ليست كل الروايات قابلة للتحويل إلى أفلام سينمائية بسهولة. ومع ذلك فإن التحديات التي تواجه هذه العملية لا تعني استحالة الاقتباس بل تتطلب مهارات عالية وإبداعًا من صناع الأفلام.
ختامــــــــــا
 يمكن القول، إنّ الصّراع بين الروائي وكاتب السيناريو ليس بالضرورة صراعًا سلبيًا، بل يمكن أن يكون حافزًا للإبداع والابتكار. فعندما يتعاون الطرفان بوعي واحترام متبادل، يمكنهما صناعة عمل سينمائي يجمع بين عمق النص الأدبي وقوة الصورة السينمائية. ومع ذلك فإن حل هذا الصراع لا يكمن في إعطاء الأولوية لأحد الطرفين على حساب الآخر بل في إيجاد توازن بين الرؤية الفنية للروائي واحتياجات السينما كوسيلة تعبيرية. إذا يجب على كاتب السيناريو أن يحترم النص الأدبي الأصلي وأن يحافظ على روحه وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يستخدم تقنيات السينما لإضافة بُعد جديد إلى النص الأدبي.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19771

العدد 19771

الثلاثاء 13 ماي 2025
العدد 19770

العدد 19770

الإثنين 12 ماي 2025
العدد 19769

العدد 19769

الأحد 11 ماي 2025
العدد 19768

العدد 19768

السبت 10 ماي 2025