فـضـاءات حيويـة تعـزّز التنميـة والانتماء والتنـوّع الثقافـي

المتاحف..جوهر السياحة الثقافية

أسامة إفراح

تشكل السياحة الثقافية حصة معتبرة من النشاط السياحي خصوصا، والاقتصاد العالمي عموما، كما أنها قطاع اقتصادي يُتوقع أن يشهد نموا متزايدا في المستقبل. وتلعب المتاحف دورا محوريا في ازدهار السياحة الثقافية، باعتبارها قنواتٍ أساسية للحفاظ على التراث، والإثراء التعليمي، والحيوية الاقتصادية. وينتظر أن تتعاظم أدوار المتاحف مستقبلا، خاصة مع ما توفره التكنولوجيا من أدوات وحلول مبتكرة، وتطور في طرائق التسويق، بما يتماشى مع الجيل الجديد من السياح.

خلال إشرافه على افتتاح الورشة الدولية الإقليمية عالية المستوى حول “حفظ وتثمين المتاحف والمجموعات المتحفية تنوّعها ودورها في المجتمع”، الأحد الماضي، أكد وزير الثقافة والفنون، زهير بلّلو، في كلمته، أن المتاحف تجاوزت دورها التقليدي كمؤسسات للعرض والحفظ، لتغدو فضاءات حيوية لترسيخ التنوّع الثقافي، وتعزيز قيم المواطنة، والعدالة، والانتماء.
وأضاف الوزير، في كلمته بمناسبة الورشة المنظمة بالتعاون مع اليونسكو والألكسو تزامنًا مع اختتام فعاليات شهر التراث الثقافي واحتفاءً باليوم العالمي للمتاحف، أن وزارة الثقافة والفنون تعمل، وفق رؤية وطنية، على تحديث المنظومة المتحفية لتكون أكثر انفتاحًا وفعالية في خدمة المجتمع، وشدّد على أهمية التحوّل الرقمي في تمكين الجمهور، لاسيما الشباب، من الولوج إلى التراث والتعرّف عليه، من خلال رقمنة المجموعات وتعزيز التوثيق والتكوين والتواصل المتحفي.
ولعل الإشارة إلى انفتاح المتاحف، وتجاوز دورها التقليدي، يقودنا إلى الحديث عن إسهاماتها الممكنة في مختلف القطاعات الاقتصادية ذات العلاقة، ومن بينها السياحة الثقافة.

الـسياحة الثقافية  في الاقـتصــاد العالمـي

تُعرّف السياحة الثقافية بأنها السفر المُوجه نحو استكشاف الفنون والتراث وأسلوب الحياة الفريد لوجهة ما، وتلعب دورا محوريا متزايد الأهمية في صناعة السياحة العالمية. وقد برزت السياحة الثقافية كقطاع حيوي في اقتصاد السفر العالمي، وأشار تقرير صادر عن “مجلس السفر والسياحة العالمي” إلى إمكانية وصول قطاع السياحة والسفر إلى مساهمة اقتصادية قياسية تبلغ 10.9 تريليون دولار في 2024، أي ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما يعني دعم القطاع 357 مليون وظيفة على مستوى العالم في نفس العام.
كما توقع تقرير آخر من نفس المجلس إلى أن يُسهم قطاع “السياحة الأصلية” (وهي نوع من السياحة الثقافية تعنى بالمجتمعات الأصلية) بمبلغ 67 مليار دولار في الاقتصاد العالمي بحلول 2034، مع معدل نمو سنوي مركب قدره 4.1%.
قبل ذلك، كانت تقديرات منظمة السياحة العالمية قد أشارت إلى تمثيل السياحة الثقافية حوالي 40% من إجمالي السياحة الدولية. ففي عام 2015، بلغ عدد السياح الدوليين حوالي 1.2 مليار سائح، ما يعني أن قرابة 480 مليون سائح اختاروا السفر لأغراض ثقافية، مثل زيارة المعالم التاريخية والمتاحف والمهرجانات الثقافية.
وعلى صعيد الاقتصاد العالمي، أشار تقرير صادر عن منظمة السياحة العالمية إلى أن قطاع السياحة والسفر يمثل حوالي 10.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي ما يعادل 9.6 تريليون دولار، كما ساهم القطاع بنسبة 28% من إجمالي صادرات الخدمات على مستوى العالم.

فضاءات لتجـارب فريـدة

وتتموقع المتاحف في قلب السياحة الثقافية، فهي لا تقتصر على كونها مستودعات للتحف والفنون فحسب، بل تُمثل أيضاً منصات حيوية للتفاعل الثقافي والتعليم، وتُعدّ بمثابة قيّمة على الثقافة والتاريخ والفن. والمتاحف، إلى جانب جذبها للسياح، تُعزز النمو الاقتصادي والهوية المجتمعية.
وقد اهتم الباحثون بأدوار المتاحف المختلفة، بما في ذلك الدور الاقتصادي، ونذكر في هذا الصدد “نظرية الاقتصاد التجريبي” (باين وجيلمور، 1998) وتشير هذه النظرية إلى أن القيمة الاقتصادية للمؤسسات الثقافية، مثل المتاحف، لا تقتصر على تقديم المنتجات أو الخدمات، بل تكمن في تقديم تجارب فريدة للزوار. وفي سياق المتاحف، يمكن تصنيف التجارب إلى أربعة أنواع: التعلم، الترفيه، الجمالية، والهروب من الواقع. وتُظهر الدراسات أن هذه التجارب تؤثر بشكل مباشر على رضا الزوار ورغبتهم في العودة وزيارة متاحف أخرى.
من جهتها، تركز نظرية “الهوية الثقافية والتواصل الثقافي” (تشين، 2024) على كيفية تأثير التجربة الثقافية في المتاحف على هوية الزوار الثقافية وسلوكياتهم بعد الزيارة. وقد أظهرت دراسة ميدانية على طلاب الجامعات في الصين أن التجربة الثقافية في المتحف تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على سلوكيات التواصل الثقافي، من خلال وسائط مثل الهوية الثقافية والرضا.
أما نظرية “الإدراك الجسدي” (زانغ وزملاؤه، 2024) فتشير إلى أن التجارب الحسية في المتاحف، مثل الرؤية والسمع واللمس، تؤثر بشكل عميق على إدراك الزوار للهوية الثقافية للمكان. وأظهرت دراسة أن التفاعل الحسي مع المعروضات يُسهم في تشكيل هوية الزوار الثقافية وتعزيز ارتباطهم بالمكان.
وهكذا، لا ينحصر دور المتحف في الربح المادي، ويتعداه إلى أدوار أخرى لا تقل أهمية، وتتوالى الأمثلة من شتى أنحاء العالم على ذلك.. مثلا، يتيح المتحف البريطاني في لندن، بمجموعته الواسعة التي تمتد لأكثر من مليوني عام من التاريخ، يتيح فرصة استثنائية للسياحة الثقافية التي تتجاوز التاريخ البريطاني. من جهته، يُبرز المتحف الوطني الصيني في بكين كيف يمكن للمتاحف أن تتقاطع مع الهوية الوطنية والسياحة الثقافية، بالجمع بين التكنولوجيا والتحف التقليدية. أما متحف إيدو- طوكيو في اليابان فيركز على التطور التاريخي لمدينة طوكيو من فترة إيدو إلى العصر الحديث.
فيما تقدم متاحف الفاتيكان مثالاً آخر على دور المتاحف المحوري في السياحة الثقافية، من خلال أهميتها الدينية والتاريخية، ولا يُسهم هذا الموقع الفريد في اقتصاد السياحة في الفاتيكان فحسب، بل يُبرز أيضًا دور المتاحف في الحفاظ على التراث الديني.

روافد اقتصاديـــة معتـبرة

أما بالنسبة لأثرها الاقتصادي في مجال السياحة الثقافية، فإن المتاحف، إلى جانب كونها وجهات سياحية، تمثل أيضا مُحفزات للنشاط الاقتصادي، حيث تُولّد إيرادات من مبيعات التذاكر، وشراء الهدايا التذكارية، والفعاليات المُصاحبة. ووفقًا للتحالف الأمريكي للمتاحف، تمثل المتاحف قطاعا بقيمة 50 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها، حيث تُوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وتُسهم في الاقتصادات المحلية. ويمكن أن يُحفز تدفق السياح الشركات المحيطة، بما في ذلك المطاعم والفنادق والمتاجر، وهو ما يفيد المجتمع بأكمله.
وعلى ذكر الولايات المتحدة، تُبرز مؤسسة “سميثسونيان” في العاصمة الأمريكية واشنطن دور المتاحف الهام في تعزيز السياحة الثقافية، حيث تضم المؤسسة 19 متحفا و21 مكتبة وحديقة حيوانات، وتجذب حوالي 30 مليون زائر سنويا. ويُسلط كل متحف داخل المؤسسة الضوء على جوانب مختلفة من التاريخ والفن والثقافة الأمريكية، كما تضمن مبادرات سميثسونيان، مثل الدخول المجاني والموارد الإلكترونية الشاملة، سهولة الوصول والتفاعل، ما يجعلها نموذجا يُحتذى به لكيفية جذب المتاحف للجمهور.
ومن الأمثلة الأخرى، نذكر متحف غوغنهايم في بلباو، إسبانيا، الذي يُعتبر مثالًا بارزًا على تأثير المتاحف في الاقتصاد والسياحة. وقد أسهم المتحف في تعزيز الاقتصاد المحلي، حيث بلغ تأثيره الاقتصادي 762 مليون يورو عام 2023، مع خلق وظائف وزيادة في الإيرادات الضريبية تتجاوز الدعم العام الذي يتلقاه.
أما في ماكاو، الصين، فقد ارتفع عدد المتاحف من 20 متحفا عام 2009 إلى 25 متحفا عام 2019، مع زيادة في عدد السياح من 2.25 مليون إلى 5.4 مليون خلال نفس الفترة، في مثال على مواكبة المتاحف للنمو السياحي.
ويمكن للتعاون بين المتاحف وقطاع السياحة أن يوسع نطاق الوصول الثقافي، من خلال الحملات التسويقية المشتركة، وبرامج الرحلات السياحية المُنسقة، والفعاليات التعاونية. مثلا، يمكن للشراكات مع الفنادق المحلية أن توفر باقات خاصة، بما في ذلك تذاكر دخول المتاحف، لتشجيع الإقامات الطويلة وزيادة مشاركة الزوار. كما تتبنى المتاحف بشكل متزايد مبادئ الاستدامة والسياحة الأخلاقية، بما يتماشى مع الطلب المتزايد على “السفر المسؤول”، ويُرسخ مكانة المتاحف كجهاتٍ رائدة في مسيرة “السياحة الواعية”.
في الأخير، وفي سبيل تعزيز دور المتاحف في السياحة الثقافية، سيكون ضروريا تطوير التجارب التفاعلية باستخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز لتوفير تجارب غامرة لمرتاديها، والتسويق الثقافي بالاستفادة من الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام الاجتماعية للترويج للمتاحف وجذب الزوار، والتعاون بين المؤسسات بإقامة شراكات بين المتاحف والمؤسسات التعليمية والثقافية، وتنويع المعروضات بتنظيم معارض متنوعة تشمل مختلف جوانب الثقافة والفن لجذب جمهور واسع.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19777

العدد 19777

الثلاثاء 20 ماي 2025
العدد 19776

العدد 19776

الإثنين 19 ماي 2025
العدد 19775

العدد 19775

الأحد 18 ماي 2025
العدد 19774

العدد 19774

السبت 17 ماي 2025