«حاجة المكتبة العربية إلى مزيد التعرف على الشعر الجزائري المكتوب باللغة العربية في فترة تعد من أهم فترات تاريخنا خصوبة وعطاء..”..كان هذا أول محفّز للدكتور محمد صالح ناصر، كي يسافر عشر سنوات في مهمّة علمية ووطنية، ويلملم شتات الرّوائع الجزائرية التي سحب عليها النسيان أرديته تحت طغيان الاستعمار، فبقيت متناثرة في دوريات توزّعت على الوطن العربي..كانت المهمة شاقة وصعبة، لكن القلب الذي لم يخفق إلا بحبّ الوطن، كان قد قرّر أن يهدي الجزائريين روح ثورة نوفمبر المباركة، تماما مثلما عزم على أن يحفظ للشعر الجزائري تاريخه المجيد، ويعيد إلى جادة الصواب كل من سولت لهم أنفسهم التحامل على تراثنا الشعري، والانتقاص من قيمته الفنية والجمالية..
كنا في احتفالية عيد المجاهد، الأربعاء المنصرم، نستذكر روائع ثورتنا المجيدة، حتى جاءنا خبر وفاة الدكتور محمد صالح ناصر، ففزعنا فيه بآمالنا إلى الكذب، كما قال المتنبي، ورحنا نحاول أن نجد من يقول لنا إنها مجرّد إشاعات يتداولها روّاد التواصل الاجتماعي، ولكن الفاجعة أصرّت على الانغماس في حبة القلب، وراح الخبر يتحقق مرّة بعد مرة، فلم نجد غير التسليم..القلبُ يفزع والعينُ تدمع، ولا نقول ما يغضب الله..ليتغمّدك الله بواسع رحمته دكتور محمد ناصر، وليدخلك في فضله، وليسكنك فسيح جنانه مع النبيين والصدّيقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا..
وإذ نعزّي الجزائر والجزائريين في هذا الفقد العظيم، نعزّي أنفسنا في فراق فارس الكلمة، العالم الورع، والقدوة الفاضل الذي أهدى الوطن عصارة فكره بحثا ودرسا، وحبة قلبه سردا وشعرا..أهدى المكتبة الجزائرية تراثا علميا وأدبيا زاخرا، لم لو يكن منه إلا العمل العظيم “الشعر الجزائري الحديث”، لكان ذخرا لأمة لم تدّخر جهدا في الدفاع عن أصالتها أمام أقوى استعمار غاشم في تاريخ الكولونياليات المقيتة..فالكتاب يمثل محطة فارقة في مسار الدراسات النقدية الجزائرية. وهو لا ينتمي إلى البحوث الأكاديمية الباردة، بل هو ثمرة جهد طويل، يستحق القراءة المتأنية..إنه عمل موسوعي الطابع، توّجته صرامة الناقد وذائقة الشاعر، ليغطي نصف قرن كامل من التحولات الشعرية، ويضيء جوانب ظلّت مهملة في ذاكرة الأدب الجزائرية.
لقد تتبع الدكتور ناصر، بكثير من الصبر، المراحل الكبرى للتجربة الشعرية في الجزائر الحديثة، بدءاً من البدايات التقليدية المحافظة، حيث ظل الشعراء متمسكين بالقصيدة العمودية كدرع يحميهم من رياح التغريب، وصولاً إلى مرحلة الإصلاح النهضوي التي ارتبطت بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي حملت على عاتقها مهمة إيقاظ الوعي وتثبيت قيم الهوية..هنا لم يكن التجديد ثورة على الشكل بقدر ما كان ثورة على المضمون، إذ أصبحت القصيدة الإصلاحية خطاباً موجهاً لتربية الذائقة العامة وتعزيز الوعي الوطني.
ولقد عرف الدكتور محمد ناصر كيف يقرأ الشعر الجزائري مع اشتداد معركة التحرر الوطني، في خمسينيات القرن الماضي، فقد عايشه محمد ناصر وهو يدخل مرحلة جديدة عنوانها “المقاومة”..النص الشعري الجزائري تحوّل إلى أداة كفاح لا تقل شأناً عن البندقية، فكل قصيدة جزائرية كانت شهادة حيّة على أن الكلمة لا تقل شرفاً عن الرصاصة، بل كانت أحياناً أسبق منها إلى قلوب الجماهير..ويكفي استحضار تجربة مفدي زكريا الذي ارتبط اسمه بالثورة ارتباط الروح بالجسد، فجعل من “إلياذة الجزائر” نشيداً حياً يجسد روح الشعب في أشد مراحل تضحياته.
ولا يكتفي الدكتور ناصر بتسجيل التحولات الكبرى في القصيدة الجزائرية، بل يمضي إلى تحليل الخصائص الفنية التي ميزت النصوص الشعرية، فيشير إلى أن النزعة الخطابية كانت غالبة في زمن الثورة بحكم طبيعة المرحلة، بينما لجأ الشعراء بعد الاستقلال إلى الرمزية والبحث عن أساليب أكثر عمقا، وهو يرى أن التجديد لم يكن مجرد مسألة شكلية ترتبط بالوزن والقافية، بل هو تحول في الرؤية وفي طبيعة الأسئلة المطروحة، فالشعر الجزائري الحديث هو شعر الموقف بامتياز..موقف من الذات، ومن التاريخ، ومن الآخر المستعمر، ومن أسئلة الحرية والوجود..
وبما أن الوفاء لأهل الوفاء واجب، بل فرض عين في جزائر تحتاج جميع أبنائها وهي تتخلص من الاستعمار، فإن الدكتور محمد ناصر جدد العهد وصدق الوعد واستعاد للجزائريين أسماء وأعمال كثيرين ممن كافحوا لأجل الحرية، وهو يبرز أعلاما تركوا بصماتهم الواضحة على مسار القصيدة الجزائرية..من محمد العيد آل خليفة والزاهري والعمودي وأبو اليقضان، إلى مفدي زكريا وعبد الله شريط وجمال الطاهري..وآخرون كثيرون آمنوا بالجزائر، وجعلوا أعمارهم الغوالي أوقافا لانتصار الجزائر.
إن كتاب “الشعر الجزائري الحديث: اتجاهاته وخصائصه الفنية 1925-1975” ليس مجرد كتاب نقدي، بل هو شهادة فكرية وتاريخية على نصف قرن من التحولات، وسفر يخلّد أصوات الشعراء الذين جعلوا من القصيدة سلاحاً للكرامة والحرية، ودليلاً على أن الكلمة في الجزائر كانت ولا تزال بوصلة للهوية وذاكرة وطن لا تنطفئ..
رحم الله الدكتور محمد صالح ناصر، ولقاه نضرة وسرورا، وجزاه بما صبر وقدّم جنة وحريرا