سراج بوحفص يعرض ألبومه الجديد بقصر الرياس

رحلة بصرية – أنثروبولوجية في ذاكرة القارّة الأم

فاطمة الوحش

لوحـات فنيـة تستحضــر الجـذور وتحتفـي بالمشـترك الإفريقـي

يعرض الفنان سراج بوحفص بقصر الرياس (حصن 23) في الجزائر العاصمة، إلى غاية 30 سبتمبر الجاري، معرضه المعنون بـ«إفريقيا، الأم». هذا المعرض ليس مجرد فضاء للعرض الفني، بل هو بمثابة رحلة بصرية وأنثروبولوجية تحاول إعادة رسم خيوط الانتماء الإفريقي للجزائر، من خلال أربعين عملاً فنياً تنوّعت تقنياتها وخاماتها، لتشكل لوحة فسيفسائية واسعة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الذاكرة الشعبية والبعد الإنساني المشترك.

اشتغل بوحفص على أعماله باستخدام مواد مألوفة من بيئته الصحراوية: الأكريليك على الخشب، أقمشة الخيش، ألياف النخيل، وحتى بعض المواد الطبيعية الأخرى. هذا المزج بين عناصر البيئة المحلية والمعالجة التشكيلية الحديثة، يترجم قدرة الفنان على تحويل الخامات البسيطة إلى لغة تعبيرية ثرية، تنبض بدلالات رمزية وتجريبية في آن واحد. إنه بذلك يضع الفن في قلب الحياة اليومية، ويعيد تعريف العلاقة بين التراث والحداثة.
وتتنوع أشكال اللوحات بين المستطيلات والدوائر والحلزونات، وصولاً إلى رموز أكثر دلالة مثل ورقة الشجر والهلال والدروع الطوارقية. هذه العلامات لا تأتي بشكل اعتباطي، بل تحمل في طياتها إشارات إلى مشترك إفريقي عابر للحدود، يُترجمه الفنان في أعماله كمرآة لهوية جماعية. وإلى جانب الرموز، تحضر إشارات قوية إلى الثروات المعدنية والنفطية، التي ظلت عبر التاريخ مطمع القوى الاستعمارية، ما يجعل من المعرض أيضا خطابا سياسيا وذاكرة بصرية تقاوم النسيان.
اعتمد بوحفص على لوحة ألوان تتوزع بين دفء الأصفر والبرتقالي المضيء المستوحى من رمال الصحراء، وخضرة الواحات، وزرقة الغابات والأنهار الإفريقية، إلى جانب البنيات الترابية التي تعكس التصاق الإنسان بأرضه. هذه التوليفة اللونية تعكس في جوهرها علاقة الإنسان الإفريقي بالطبيعة والفضاء، وتجعل من كل لوحة مساحة للتأمل في توازن الحياة.
ويذهب المعرض أبعد من البعد الجمالي البحت، ليلامس الجانب الأنثروبولوجي. ففي عدد من اللوحات، يحضر استحضار لطقوس واحتفالات محلية، مثل السبيبة في جانت، وأهليل في بني يزقن، ورقصات الربوخي في ورقلة وتقرت والمغير. كما تمتد الذاكرة إلى عمق القارة باستدعاء طقوس أفريقية أخرى مرتبطة بلغات وموسيقى كالهاوسا والبامبارا.
 بهذا، يضع الفنان المتلقي أمام فسيفساء ثقافية تثبت أن الشعوب الإفريقية ـ رغم اختلافاتها ـ توحدها طقوس احتفالية تعبر عن جوهر الوجود والاحتفاء بالحياة.
ومن الملامح المميزة لأعمال سراج بوحفص هو حضوره القوي كباحث بصري في التراث. فالرموز التي يستعملها ليست غريبة عن الثقافة الجزائرية، بل نجد أثرها في زخارف الفخار القبائلي، وفي الوشوم التقليدية للنساء الشاويات، وفي الزينة المعمارية للبيوت الشعبية من الصحراء إلى الساحل. هذه المقارنات البصرية تجعل المعرض أقرب إلى رحلة في جذور الهوية الجزائرية، وتؤكد أن الانتماء الإفريقي ليس شعارًا سياسيًا أو خطابًا ثقافيًا عابرًا، بل حقيقة متجذرة في الثقافة المادية والرمزية للشعب الجزائري.
سراج بوحفص ليس فنانا أكاديميا بالمعنى التقليدي، بل عصامي التكوين، استطاع منذ تسعينيات القرن الماضي أن يطور أسلوبًا يجمع بين الأصالة والتجديد. أولى محطاته خارج الجزائر كانت سنة 1992 بفرنسا (سان- مارتان- دارديش)، حيث لفت الانتباه بأعماله التي حملت بصمة الصحراء. ومنذ ذلك الحين، واصل المشاركة في معارض عديدة داخل الجزائر، مثبتًا مكانته كأحد الأسماء البارزة في المشهد التشكيلي المعاصر. واليوم، يحلم بوحفص بتنظيم معرض ضخم في قاعات كبرى بالعاصمة يلخص تجربته الممتدة لأكثر من ربع قرن.
ولا يتوقف نشاط بوحفص عند التشكيل والنحت، فهو أيضا موسيقي يتقن العزف على آلات إيقاعية تقليدية مثل الطبل، العود والكمان والجيتار. هذا التعدد يمنحه آفاقا أوسع للتعبير، حيث تتحاور الألوان مع الأصوات، والإيقاعات مع الأشكال، في تجربة إبداعية متكاملة تعكس غنى التراث الإفريقي وروحه الحيوية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19876

العدد 19876

الأحد 14 سبتمبر 2025
العدد 19875

العدد 19875

الأحد 14 سبتمبر 2025
العدد 19874

العدد 19874

السبت 13 سبتمبر 2025
العدد 19872

العدد 19872

الأربعاء 10 سبتمبر 2025