ظاهرة البيع العشوائي تشوّه الأسواق

سعيد بن عياد

يعتبر السوق الميدان الذي تتصارع فيه المصالح التجارية، بين، من جهة، تجار ينقسمون إلى احترافيين يحاولون الالتزام بقواعد المهنة حتى لا يهتز استقرار السوق، وغيرهم من الدخلاء الذين يمارسون الاحتكار والمضاربة وكل أشكال الفساد، ومن جهة أخرى مستهلكون، يتوزّعون إلى فئات، واحدة لميسوري الحال لا يسألون عن أحوال وتقلبات السوق فيتعاملون مع الغلاء كأمر عادي ولا ينزعجون إطلاقا من التهاب الأسعار، المهم أن تمتلئ القفة بما لذّ وطاب، وأخرى متوسطة ومحدودة الدخل تراهم يدقّقون الحسابات ويتنقلون من محل إلى آخر بحثا عن سعر تنافسي، وأحيانا يكون على حساب الجودة، وفئة المسحوقين من عديمي الدخل وفئات هشة اقتصاديا واجتماعيا تتنقل من موقع لآخر لجمع قوت يومهم.
إنّه مشهد يومي الذي يعكس صراع الحياة، حيث الكل يبحث عن مصلحته، في مدينة تركت لما يعرف باقتصاد السوق، الذي يرفع معشر التجار احد قواعده فقط تتمثل في حرية الأسعار والتنافسية بلا ضوابط، ويرفضون الالتزام بالقاعدة الثانية التي تضمن توازن المصالح وهي شفافية الأسعار وضبط هوامش الربح، ويزيد من حدة هذا الخلل غياب آليات تنظيمية صارمة ومقبولة من شركاء السوق تضمن توازن المصالح وشرعيتها، فتسير أمور السوق، أيا كان طابع نشاطها، في ظل الهدوء وقبول الأطراف لبعضها البعض. ويتعلق الأمر هنا بضرورة إعادة صياغة مهام ودور مصالح الرقابة التابعة لوزارة التجارة، التي يبدو أنّها عاجزة عن إيجاد موقع وظيفي لها دونما المساس بمبادئ السوق، تاركة الحبل على الغراب إلى درجة أصبح الخطر يتهدّد الصحة العمومية للمجتمع، بفعل اتساع دائرة البيع العشوائي والعرض غير القانوني للمواد خاصة سريعة التلف إلى غيرها من ممارسات أصحاب الربح السهل من غش وتسويق لمواد منتهية الصلاحية، يباع اغلبها في أسواق تنشط في وسط ملوث، وتنبعث منه روائح كريهة، لم تتمكن وسائل نقل النفايات التابعة للجماعات المحلية من إنهائها، بسبب تقصير العديد من التجار وعدم اهتمامهم بالنظافة. بالرغم من تكرار سيناريو إفلات السوق التي تتحكم في معيشة السكان من الرقابة، وإطلاق تصريحات مدوّية هنا وهناك، تفيد بان إجراءات سوف تتخذ لكسر الأمر الواقع، إلا أن دار لقمان لا تزال على حالها، بينما الجهات المكلفة تتفرّج، فالسّردين سريع التلف يباع بعد الحادية عشر صباحا وأحيانا بعد الظهيرة، دون أن تبادر مصالح النظافة للبلديات بالتحرك لإعادة تصحيح هذا النشاط، ومواد معلية منتهية الصلاحية تعرض على رفوف دكاكين، فقد أصحابها الحس المهني، مستفيدين من اللارقابة، وكثير من المواد الهشة التي تتطلب شروط الحفظ الصحي والعناية تسوّق بشكل يفتقر للعناية دون احترام القواعد الواجب إتباعها. أكثر من هذا توجد محلات تفتح أبوابها مباشرة على مواقع إلقاء النفايات، ولا ينزعج منها احد، كما هو الشأن في العديد من الأحياء الشعبية وحتى في بعض الشوارع الكبرى من مدننا بما فيها العاصمة، حيث تنبعث روائح كريهة وأخرى مزعجة، بينما يقبل المستهلكون على مطاعم ومحلات تنعدم فيها التهوية. إنّها أيضا مسؤولية المستهلك، الذي يبدو أنه لا يبالي بما يحيط به، كأنه يستسلم للأمر الواقع، بينما يمكنه أن يساهم في تغييره، بإتباع سلوكات حضرية وراقية، مثل عدم الإقبال بشكل أعمى على اقتناء حاجياته مقابل الحرص على عنصر الجودة والتأكد من شرط صلاحية المنتوج ومطابقته للمقاييس، والاستغناء عن أي مادة خاصة الغذائية منها إذا لاحظ ارتفاع فاحش للسعر والتنقل إلى محل أو سوق آخر حيث السعر معقول وذلك للتأكيد للتاجر أن المستهلك يعرف كيف يقاوم التجاوزات. لم يعد مبررا استمرار قيام علاقة التاجر بالمستهلك على التبعية والهيمنة غير المعلنة، وإنما ينبغي إرساء ثقافة استهلاكية قائمة على حسن الاقتناء وإرادة الاختيار وحق التأكد من سلامة المنتوج، شريطة أن تساهم مصالح الرقابة (رقابة الجودة واصل المنتوج)، في ذلك، وبالتأكيد أن التاجر المهني والصانع الاحترافي سيرحب بهذا، طالما أن من يحترم معايير الجودة وعقلانية السعر سيفوز حتما بمعركة المنافسة، بل، بمعركة المصالح المشروعة طبعا.
   

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024