“سيرك عمار “ وجهة ترفيهية للعائلات

عـروض وألعـاب بهلوانيـة تمتـع الجمهـور

ألـف كلمة تختزل ساعتين من الفرجة

كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً، عندما وصلنا إلى “أرديس”، وهناك تفاجأنا بامتلاء موقف السيارات عن آخره، ركنا السيارة وأكملنا سيرنا إلى الخيمة العملاقة التي لخّصت الزمان والمكان في كلمتين فقط هما “سيرك عمّار”..


المجهول بدأ..
كنت متحّمسة جدا لدخول الخيمة التي رأيتها كالعلبة السحرية التي ستعيد لي جزء من ذكريات الطفولة التي غابت عن فكري لسنوات طويلة، وكانت الأسئلة عن طبيعة العروض التي سنراها مسيطرة على كل من ينتظر دوره للدخول إليها، لأن الصورة النمطية التي يحتفظ بها أغلبنا عنه كانت تراكم لما كانت تعرضه الشاشة الصغيرة عشية، كل يوم اثنين سنوات الثمانينيات والتسعينيات.
هذا التدافع العنيف للذكريات توقف عندما فتحت الأبواب لاستقبال المتفرجين الذين كانوا بالمئات، جاءوا كبارا وصغارا وحتى رضعا من كل الولايات المجاورة للعاصمة فقط للاستمتاع بعروض سيرك عمّار، الذي استقطب الكثير من الاهتمام من المواطنين، لذلك سخرت له كل وسائل الأمن من أجل إنجاح هذه التجربة لكل من يعيشها، والملفت أن سيارة إسعاف وشاحنة تدخل للحماية المدنية كانتا موجودتان أمام الخيمة، بالإضافة إلى أعوان الأمن الوطني، ما جعل كل واحد منا يشعر بالأمان وأن كل شيء سيكون بخير.
المهم، عند الخامسة والنصف فتحت الأبواب مررنا برواق يراقب فيه شخصان من السيرك التذاكر، وبمجرد أن يمسكا بها لتقطيعها تشعر وكأنك دخلت عالم آخر لا تراه إلا في الأحلام، لأن بزتهما الرسمية والخطوط الذهبية التي تزينها في الصدر والعمامة الحمراء الملفوفة بالطريقة الهندية، السمرة التي تعلو وجههما تؤكد على أننا خارج الزمان والمكان الذي تعوّدناه دائما.
في مدخل الخيمة وجدنا سيدتان جميلتان بملامح أوروبية ترشد الوافدين إلى مكان جلوسهم داخل الخيمة باللغة الفرنسية،.. ذكرتني الإنارة القليلة والسير على الرمال المفروشة  بظلام النفق الذي كان الفاصل بين عالم “أليس” وبلاد العجائب التي سافرت إليها عبرة حفرة،.. مشينا خطوات قليلة ثم صعدنا سلالم معدودة، هناك وجدنا أنفسنا في المدرجات التي كانت منقسمة إلى ثلاث درجات الأولى الموجودة أمام مكان العرض وتتكون من صفين بكراسي مزينة بأشرطة ملونة، أما الثانية فتتكون من ثلاث صفوف أما الثالثة وهي الأعلى فتتكون من أربعة صفوف تقريبا.
اختار كل واحد منا المكان المناسب لتذكرته وجلسنا مذهولين بمنظر الخيوط والأسلاك الموجودة فوقنا، وتساءلنا عن الكرة الحديدية الكبيرة التي كانت تعلو الخيمة، ووسط هذا الذهول سمعنا صوتا جميلا يقول بلغة فرنسية، “الأطفال كثر ولا أحد منهم يركب الحصان”، أعادنا بلكنته الايطالية إلى المكان الذي نجلس فيه لنستقر من جديد في الواقع، لنتفطن إلى وجود أحصنة صغيرة مكان العرض موجودة ليركبها الأطفال في انتظار دخول الجميع إلى أماكنهم لبدء الفرجة.
المهرجون، التماسيح والأناكوندا أبطال الجزء الأول
بعد نصف ساعة، وعند السادسة وعشر دقائق مساء، أطفأت كل الأنوار لنغرق في ظلام دامس، كسّرته الأضواء الكاشفة معلنة البداية، التي انطلق مع الصوت “انطونيو” صاحب اللكنة الايطالية مرحبا بنا في سيرك عمّار وتمنى لنا وقتا ممتعا.
الانطلاقة كانت مع المهرجين اللذين كانا فتاة شقراء ترتدي فستانا أزرق قصير وكأنها دمية متحركة، وجهها ملون بالأزرق والأحمر، أما المهرج فكان يرتدي لباسا أزرق بخيوط ذهبية في الصدر قصيرا من الأمام وطويلا من الخلف أما السروال فكان فضفاضا زاده الحذاء الأزرق العملاق أناقة، أضحكنا كثيرا عرضهما الذي شارك فيه بعض الأطفال وكانوا جزء منه ما جعله حيا وخلق تفاعل ايجابي مع الجمهور.
أما العرض الثاني فكان لسيد أمريكا الذي ركب الدراجة وانطلق بها إلى أعالي الخيمة على سلك حديدي وأسفل الدراجة كانت تجلس فتاة معلقة بالدراجة ترتدي لباسا لشخصية كرتونية، وعند بلوغ الدراجة أعلى نقطة في الخيمة بدأت الفتاة تتأرجح في الهواء، هذه العروض حبست أنفاس المشاهدين خاصة عندما بدأت الدراجة في الدوران حول السلك بسرعة في الأعلى، انتهت العروض المختلفة التي قدمها السيد والسيدة أمريكا بتصفيقات الجمهور المنبهر بها.
بعدها جاء دور الأحصنة القزمة التي قدمت حركات متناسقة ودقيقة تعكس الوقت الطويل الذي قضاه المدرب في تلقينهم إياها، ثم جاء عرض الجمال، ثم عرض الحيوانات الإفريقية التي تنوعت بين حمار وحشي والجاموس وقردة صغيرة على ظهورها وصنعت الزرافة الحدث بتواجدها معها.
لكن كان عرض الدراجات النارية مذهلا وحبس أنفاس المتفرجين غير المصدقين للدقة التي اتسم بها، فقد أنزلت الكرة الحديدية التي لفتت انتباهنا بمجرد دخولنا إلى الخيمة، وفتحت ليدخل درّاجان لتغلق... لينطلقا في الدوران داخلها في الاتجاه المتعاكس دون أن يصطدم الواحد منهما بالآخر، أما عندما أصبحوا ثلاثة يدورون بالسرعة القصوى داخلها فكان الأمر صعب التصديق وما زاد في إثارة العرض صوت المحرك المدوي، والأضواء الكاشفة من قوته.
أما عرض كليوباترا فكان رحلة في التاريخ الفرعوني القديم، ولكن دخول المومياء في صندوق صغير ووضع التمساح فوق كليوباترا جعل مزيج مشاعر الخوف والدهشة تسيطر على المتفرجين الذين تفاجأوا بأربعة حراس يحملون الملكة المصرية على ظهورهم ملتفة بثعبان الأناكوندا الضخم.. كان لونه الأصفر اللامع تحت الأضواء منظرا مخيفا زاد من نبضات قلوب المتفرجين، خاصة وأنها سارت وسطهم لتريهم إياه، وهي ممسكة بهذا المخلوق الكبير دون أن تخاف بعد انتهاء العرض، أعلمنا “أنطونيو” أن الجزء الأول من العرض انتهى وبعد لحظات سيبدأ الجزء الثاني الخاص بالحيوانات المفترسة.
في تلك اللحظات بدأ أعوان السيرك بتركيب القفص الحديدي، وبكل دقة تم وضع القطع واحدة تلو الأخرى وفي دقائق معدودة، بدا القفص كبيرا وعاليا حتى نستطيع مشاهدة العرض بكل أمان.
كانت الأسود أول من دخله، عددها لم يتجاوز الثلاثة لبؤتان وأسد،… منصاعين لأوامر المدرب “ستيف دوغي” دون أي تذمر استطاعوا تقديم عرض مذهل، ولعل إعطاءهم بعض اللحم بين الفينة والأخرى سهّل من مهمة حركتها بكل سلاسة، بعد ملك الغابة جاء دور النمور التي كان من بينها نمر أبيض جميل ونادر، كانوا رائعين خاصة عندما عبروا الدائرة النارية دون خوف وبكل براعة.
الأرجوحة... خفة ورشاقة أسرتا قلوب المتفرجين
أما العرض الأخير فكان مذهلا بحق، لأنه الجزء الأخطر والأقوى في العروض البهلوانية، مع وضع الشبكة تحت الحبال المعلقة أعلى الخيمة عرف الجميع أن التأرجح في الأعلى سيكون خطيرا على فاعله، وبعد الانتهاء من نصب الشبكة على ارتفاع معين من الأرضية، بدأ اللاعبون في الصعود إلى الأعلى وكانوا مرتدين بزات لشخصيات من أبطال الرسوم المتحركة، كـ«ايرماين”، “سبيدرمان”، “سوبرمان” وشخصيات أخرى، أما “باتمان” فكان في الجهة المقابلة يحضر نفسه على الأرجوحة، تمسّك جيدا برجليه في الأرجوحة وبدأ يتأرجح رأسا على عقب بسرعة كبيرة وعندما صفق أمسك “سبيدرمان” الأرجوحة في الجهة المقابلة وبدأ يتأرجح وفي هنيهة رمى بنفسه ليمسكه “باتمان” ثم وبسرعة كبيرة يدور “سبيدرمان” ويمسك الأرجوحة مرة أخرى ويعود إلى مكانه مع زملائه في الجهة المقابلة، كانت رؤوسنا مشدودة إلى الأعلى غير مصدقين البراعة الذي تميز بها العرض والدقة التي تجعلهم يلعبون على الجزء من الثانية.
..بعد هذا العرض المدهش قدم أنطونيو كل من شارك في العروض الذين كانوا يدخلون الواحد تلو الآخر تحت تصفيقات الجمهور، ليقدموا عرضا راقصا تحت أنغام جزائرية ليكون دخول العارض بلباس جزائري صحراوي حاملا العلم الجزائري نقطة النهاية التي كانت بداية لحلم جميل فجرتها عروض قدمها أشخاص يملكون مهارات كبيرة جعلهم أداءهم أكثر من رائع، وكانت تأكيد على ان السيرك عالم ساحر وآسر.

علـــى الهامـش

- منحت فرصة أخذ صورة مع المهرجين والبطل “سبيدرمان” بين جزئي العرض، ما أعطى الأطفال فرصة ذهبية لترسيخ تلك اللحظات السعيدة في صورة، وبمجرد أخذ الصورة يعطى صاحبها رقما ليستطيع أخذها بعد نهاية العروض، ويذكر أن سعر الصورة الواحدة 500 دج.
-استطاع المهرج أن يصنع الفرجة بعد اختياره لأربعة رجال من المتفرجين ليشاركوه العرض حيث يطلب من كل واحد منهم رقصة معينة، ثم يجلسون على كراسي في ترتيب معين، يقوم بعدها بسحب الكراسي الأربعة دون أن يسقط هؤلاء الشباب رغم الوضعية التي يشكلون فيها دائرة يكون فيها كل واحد منهم متكئا برأسه على ركبة الثاني، والمضحك أن المهرج يخرج من المسرح دون تفكيكهم ما جعل المتفرجون ينتظرون سقوطهم في أي لحظة ولكنه عاد ليساعدهم على الوقوف ثانية بعد عرض ناجح وموّفق.
-كان من بين المتفرجين سيدة في العقد السابع، أتت إلى “سيرك عمار” لاسترجاع متعة العروض، بعد سنوات من الانقطاع عنه، وأخبرتنا أنها منذ صغرها، وهي مولعة بكل ما يقدمه خاصة ـ العروض البهلوانية.
-صنع “أنطونيو” بلكنته الايطالية، وملابسه الزرقاء المزينة بمرايا صغيرة وقبعته البيضاء الطويلة ووجهه المزين باللون الأبيض المتميز، خاصة عند مشاركته عروض المهرجين، كما كان تنشيطه وتقديمه للعارضين محترفا ينّم عن قدرة عجيبة في شد انتباه الجمهور، واتفق الجميع على كونه الإضافة الحقيقية للسيرك.
-احترمت إدارة “سيرك عمّار” خصوصية المجتمع الجزائري المحافظ، فكان كل العارضين رجالا ونساء في لباس محتشم ما خلق نوعا من الألفة والاندماج مع الحاضرين، فكان الجو عائليا مائة بالمائة.
-حددت إدارة السيرك ثمن التذاكر بـ 1700دج للدرجة الأولى و1400 دج للدرجة الثانية و700دج للدرجة الثالثة، وستستمر العروض طوال عطلة الربيع من 17 مارس إلى غاية 31 مارس، يقدم السيرك خلالها عرضان الأول من الساعة الثالثة مساء إلى الخامسة مساء والثاني من السادسة مساء إلى الثامنة ليلا.
-يرجع تاريخ “سيرك عمار” إلى برج بوعريريج منطقة مجانة، أسسه “أحمد بن عمار القايد” المولود سنة 1860 بدوار مجانة ولاية البرج وقام بترويض الحيوانات المتوحشة وبدأ بتقديم عروضه. ليعرف بعد ذلك شهرة دفعت به إلى تقديم أول عرض في انجلترا، وهناك تعرف على “ماري بونفو” التي تزّوج منها وهي فرنسية الأصل ليتطور السيرك بعد ذلك إلى أن توفي احمد بن عمار سنة 1913 لتواصل زوجته وأبناءه الستة المسيرة وأصبح الاسم عالميا ومرتبطا بإيطاليا بعد أن تم بيع هذا الاسم لأكبر مسيري عروض السيرك بإيطاليا.  
-شكرت إدارة السيرك على لسان “أنطونيو” وزارة الثقافة التي سمحت لهم بالاستقرار بجوار “ارديس” لتقديم عروضهم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024