العمل العربي المشترك..من مفهوم “القومية” التّقليدي إلى البراغماتية العقلانية
الجامعة العربية تأسّست في غير زمننا وهي مدعوّة لهيكلة آليات العمل العربي
فلسطين ليست قضيّة مركزية فقط..بل منارة أخلاقيـة ومبـدأ تأسيســي للمستقبـل
يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور عبد القادر منصوري، أنّ رسالة رئيس الجمهورية بمناسبة القمة العربية المنعقدة بالعراق، تعكس منهجا جزائريا واضحا في مقاربة العمل العربي المشترك، والانتقال من المفهوم التقليدي للقومية إلى براغماتية سياسية عقلانية، تقرأ الواقع بعيون مفتوحة وتستشرف التحديات، فالدعوة إلى وحدة الصف التي تدعو إليها الجزائر، تقوم على إدراك عميق لموازين القوى المتغيرة، حيث لا مكان في النظام الدولي الجديد إلا للكتل القوية المتماسكة.
في السياق، يشير الدكتور منصوري في تصريح لـ “الشعب”، إلى أنّ تذكير رئيس الجمهورية بـ “خطورة المناخ الدولي الجديد، وتكريس منطق الغلبة”، يعكس وعيًا جزائريًا استراتيجيًا بكون وحدة الصف العربي لم تعد خيارًا ظرفيًا، بل ضرورة وجودية، خاصة في ظل ما وصفه الرئيس بـ “مرحلة مفصلية ومصيرية”. ومن هنا، تتحوّل الوحدة إلى سلاح ضروري لمواجهة محاولات التصفية التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، ولبناء موقف عربي صلب يُحترم على طاولة العلاقات الدولية.
علاوة على ذلك، يؤكّد أستاذ الدراسات الأمنية والدولية، الدكتور بوحاتم مصطفى، أنّ البعد الفلسطيني في خطاب رئيس الجمهورية تجاوز الطابع التضامني الكلاسيكي إلى بعد وجودي، وإنساني وحضاري، فقضية فلسطين - كما وصفها - ليست “مركزية” فقط، بل هي اختبار حقيقي لمصداقية العالم العربي، في زمن تتساقط فيه القيم أمام منطق المصالح المجرّدة.
ويشير بوحاتم إلى أنّ الرئيس تبون لم يكتف بإدانة رؤية “السّلام على مقاس الاحتلال”، بل استنكر “الطموحات العبثية” التي تشرعن العنف، وتغتال أبسط مقوّمات الاستقرار الإقليمي. كذلك، كانت الإشارة إلى الدور الجزائري داخل مجلس الأمن بمثابة إبراز لدبلوماسية فاعلة، لم تكتف بالتصريحات بل دفعت نحو حشد الدعم الدولي لقيام الدولة الفلسطينية، مستفيدة من الزخم الأوروبي المتزايد للاعتراف بها.
في هذا الإطار - يضيف الدكتور بوحاتم - أنّ كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس التي شكر فيها الجزائر مباشرة، ليست مجاملة دبلوماسية، وإنما اعتراف بجهد نوعي قامت به الجزائر منذ انتخابها عضوا غير دائم في مجلس الأمن، دفاعًا عن الحق الفلسطيني، وفضحًا للممارسات الاستيطانية الصهيونية.
ضــرورة مصيريـة
بالإضافة إلى المواقف السياسية، تضمّنت الكلمة دعوة واضحة وصريحة لإصلاح بنية الجامعة العربية، انطلاقًا من وعي جزائري بأنّ “الجامعة التي تأسّست في زمن غير زمننا، وسياق غير سياقنا” لم تعد قادرة على مواكبة التحديات المعاصرة. ومن هنا، تظهر الجزائر كـ “قوّة اقتراح” لا تكتفي بالتشخيص، بل تدعو إلى إعادة هيكلة الآليات العمل الجماعي العربية، بما يخدم مقاربة جماعية جديدة، تتجاوز هشاشة القرارات الشكلية، وتعيد للعرب وزنهم في الساحة الدولية.
إنّ تزامن انعقاد القمة في بغداد يحمل رمزية قوية، إذ أن العراق، الخارج من أتون الدمار، يجسّد هو الآخر نموذجًا لاستعادة القرار الوطني وتجاوز المحن الداخلية. والجزائر، بموقفها الداعم دوماً للسيادة الوطنية، تربط بين استقرار الأقطار (كما هو الحال في سوريا ولبنان وليبيا والسودان) وبين الأمن الجماعي العربي، وترى أنّ غياب الدور العربي في تسوية النزاعات فتح الأبواب أمام تدخلات خارجية تكرس الانقسام.
وفي المحصلة، لا يمكن قراءة كلمة رئيس الجمهورية في قمة بغداد، خارج السياق العام الذي ترسمه الجزائر لسياستها الخارجية منذ سنوات، والمبني على ثلاثية السيادة، الوفاء للمبادئ، والدور الفاعل في المحافل الدولية. وهذه كلمة تؤكّد من جديد على أنّ الجزائر لا تكتفي بالبقاء على الهامش، بل تسعى لقيادة تكتل عربي جديد يعيد للأمة حضورها وكرامتها في عالم يشهد مخاض تحوّلات جيوسياسية عميقة.
ولعلّ الرّسالة الأهم التي حملها الخطاب، كما خلص إليها المحلّلان، أنّ الجزائر لا تزال وفيّة لمبادئها التّحرّرية، لكنها اليوم أكثر وعيًا بلغة المصالح والتوازنات، وأكثر استعدادًا لتحويل التضامن إلى فعل دبلوماسي ممنهج، يجعل من فلسطين ليس فقط قضية مركزية، بل منارة أخلاقية ومبدأ تأسيسي لمستقبل عربي موحّد.