الأولوية للحلــول السّياسيــة والتّنمويـة لمعالجـة جـذور التّوتّر
سعدي: الجزائر ترفض مبدئيا منطق الوصايــة أو النّفـوذ العسكري
في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الساحل الإفريقي، تبرز الجزائر كفاعل إقليمي يتمسّك بمبادئه، ويواجه تحديات متزايدة تفرض عليها إعادة ضبط آليات التعاطي مع جوار مضطرب تترسّخ فيه مشاهد الانقلابات المتكررة، وتتنامى فيه ظواهر التدخل العسكري الأجنبي بأشكاله المباشرة والنيابية. هذه التحولات، التي يصفها العديد من المتابعين بأنّها إعادة تشكيل موازين القوة والنفوذ في منطقة تمثل الامتداد الجغرافي والأمني الطبيعي للجزائر، تدفع نحو قراءة معمّقة لمقاربة الجزائر التي لا تزال تميز نفسها عن منطق العسكرة والهيمنة.
ورغم علاقاتها الاستراتيجية مع العديد من الأطراف الدولية المؤثرة في منطقة الساحل، تتعامل الجزائر مع هذه المعطيات بمنطق متّزن. فهي لا تنخرط في ردود فعل حادة، لكنها - في الوقت ذاته - تلتزم بمبدأ واضح مع رفض أي شكل من أشكال عسكرة فضاء الساحل خارج الأطر الشرعية الإقليمية، وإعطاء الأولوية للحلول السياسية والتنموية لمعالجة جذور التوتر. وهذا ما عبّر عنه بوضوح الفريق أول السعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، خلال الندوة التي عقدها مؤخرًا تحت عنوان «السّاحل الإفريقي: التحديات الأمنية والتنموية في ظل التجاذبات الجيوسياسية»، والتي شهدت مشاركة رفيعة المستوى.
في نفس السياق، تؤكّد الجزائر، انطلاقًا من مبادئها الثابتة على احترام سيادة الدول، مع رفض منطق تصدير الأزمات أو استيراد الحلول، كما تشدّد بشكل مستمر على الالتزام بتقديم الدعم لجيرانها من خلال آليات التعاون المشترك، مثل «لجنة الأركان العملياتية المشتركة»، التي ترتكز على مبدأ «التكفل الذاتي» للتحديات الأمنية، بعيدًا عن التدويل المفرط للصراعات.
وفي خطاب لا يخلو من الدلالات، أشار وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف في العديد من المحطات، إلى أنّ الجزائر «تمتلك من مخزون الصبر ما يؤهّلها للتعامل مع معضلات المنطقة بحكمة وتبصّر»، مضيفًا أن الأمن في الساحل لا يمكن فصله عن التنمية، ولا يمكن ضمانه عبر المقاربات العسكرية فقط. هذه الرؤية تجد صداها في السياسة الخارجية الجزائرية منذ عقود، حين كانت الجزائر الراعي الرئيسي لاتفاق السلم والمصالحة في مالي الموقع عام 2015، والذي تحاول الطغمة العسكرية في باماكو التملص منه.
كما أنّ خطاب الجزائر لا يُختزل في الرفض، بل يندرج ضمن رؤية بديلة، قائمة على تشجيع المسارات السلمية والتنمية المتوازنة، فقد أظهرت الجزائر انخراطًا فعليًا في مشاريع طاقوية وتنموية مع النيجر، وسعت عبر القنوات الدبلوماسية إلى تجنيبها سيناريو التدخل العسكري عقب الانقلاب على الرئيس محمد بازوم. وفي سياق متصل، تشير قراءات تحليلية جزائرية إلى وجود محاولات من قوى خارجية للاستثمار في الأزمة في دول الساحل عبر تعزيز التدخلات العسكرية تحت غطاء الشراكة الأمنية، وهو ما ترفضه الجزائر باعتباره تهديدًا لبنية الاستقرار الإقليمي.
وفي قراءة أعمق، يرى أستاذ الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية الدكتور سعدي مصطفى في تصريح لـ «الشعب»، أنّ خصوصية المقاربة الجزائرية تكمن في توازنها بين الثوابت الاستراتيجية ومتطلبات الواقعية السياسية. فالجزائر - يقول سعدي - «تدرك أنّ أمنها لا ينفصل عن استقرار محيطها، لكنها ترفض من حيث المبدأ أن يُدار هذا المحيط بمنطق الوصاية أو النفوذ العسكري. ولهذا تسعى لأن تكون صانعة حلول لا ساحة تنافس».
وتتّضح أهمية هذا التوجه من خلال الرسائل المتكررة التي تبعث بها الجزائر إلى محيطها الإفريقي، مفادها أنّ لا بديل عن الحوار، وأن مصير الساحل لن يُصاغ في غرف العمليات العسكرية، بل في مشاريع التنمية، وبناء الثقة، وتعزيز السيادة الوطنية عبر مؤسسات قوية وشراكات قائمة على الاحترام المتبادل، والجزائر، اليوم تدفع بمقاربة واقعية لكنها غير منقادة، تنطلق من فهم عميق لتعقيدات الساحل، وتتعاطى مع التحديات عبر أدوات دبلوماسية وعسكرية وتنموية منسجمة مع مواقفها التاريخية. وبينما تتغير التوازنات في الإقليم، تظل الجزائر مصرّة على أن الحل لا يكون بمزيد من البنادق، بل بمزيد من الحكمة.