حكومـة بايرو أصبــحت في حكم المنتهيــة
تواجه فرنسا أحلك الأيام السياسة، بفعل هشاشة الحكومة وتصاعد الاستقطاب الحزبي وتزايد إحباط الفرنسيين من السياسات الاقتصادية المجحفة.
ومع اقتراب أسبوع الشلل العام، مطلع الشهر المقبل، لن تتمكن الأوساط اليمينية من توظيف ورقة الجزائر، مثلما فعلت دائما.
تعد الحكومة الفرنسية، بقيادة الوزير الأول فرنسوا بايرو، أيامها الأخيرة أمام ما تواجهه من مقاومة سياسية واجتماعية شديدة، وصلت حد إعلان الشلل العام في العاشر من سبتمبر المقبل، أين دعت النقابات والأحزاب إلى الإضراب العام.
وفي خطوة تكتيكية قد يدفع ثمنها غاليا، أعلن بايرو، في ندوة صحفية، توجهه إلى البرلمان لطلب التصويت على الثقة في الثامن من الشهر ذاته، محاولا قطع الطريق أمام المعارضة وإفراغ الإضراب من محتواه السياسي.
لكن هذه الخطوة، التي قال إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وافق عليها بشكل مسبق، قد تكلفه نهاية حكومته، فإذا لم يظفر بثقة البرلمان سيكون عليه تقديم الاستقالة لرئيسه.
وهو الاحتمال الذي بات شبه مرجح بعد إعلان اليمين المتطرف، أنه لن يمنح الثقة لحكومة بايرو، واعتبر أنها باتت في حكم المنتهية من الآن، معولا على أصوات اليسار واليسار الراديكالي اللذين يخططان، منذ أشهر، للإطاحة بهذه الحكومة.
ورحيل حكومة بايرو، لن يكون حلا لفرنسا، بل سيزيد الأوضاع تعقيدا وتأزما، لأنه وإضافة إلى الأزمة السياسية المرتبطة بتشكيل الحكومة، تواجه البلاد أزمة مديونية اقتصادية خانقة بتريليونات اليوروهات، مع إصرار الطبقة الاجتماعية على الإضراب وشل كل شيء.
بايرو، الذي يصر على خطته الرامية لتوفير 44 مليار سنة 2026، عبر عدة إجراءات، منها إلغاء عطلتين مدفوعتي الأجر، أكد أن بلاده تواجه خطر الإفلاس، إذ باتت تنفق على سداد الديون أكثر مما تفعل على التربية والجيش.
ورغم اعتماده خطاب الصراحة المطلقة، إلا أنه يصبّ المزيد من الزيت على من حيث لا يدري، لأن أصابع الاتهام ستعود لتشير بالضرورة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، باعتباره المسؤول الأول عن السياسة الاقتصادية والمسؤول الرئيسي عن حالة الانسداد السياسي، كونها نجمت عن الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها العام الماضي.
ومع اقتراب نهاية عهدته الرئاسية الثانية، يواجه ماكرون غضب الجميع، وفي مقدمتها الأحزاب التي تستعد لابتزازه سياسيا وعلى رأسها اليمين واليمين المتطرف، رغم ما قدمه لها من تنازلات، خاصة في إدارة العلاقة مع الجزائر واللجوء إلى التصعيد والتأزيم.
كما سيواجه غضب الشارع الذي تقوده النقابات والبداية من العاشر سبتمبر المقبل، في وقت يخفت صوت بلاده من يوم لآخر على الصعيد الخارجي.
وأمام هذه الأوضاع المتفجرة، سيكون على مختلف الأطياف السياسية الفرنسية خوض معركتها الداخلية بنفسها، بعيدا عن توظيف ورقة الجزائر التي لطالما استخدمت لتحويل الأنظار ولإرضاء النزوات الاستعمارية لليمين المتطرف، والإيحاء باستمرار قوة ونفوذ فرنسا خارجيا.
لكن الواقع يقول العكس تماما. فقد أجادت الجزائر إدارة معركتها الدبلوماسية مع باريس، بما يحفظ سياستها ويراعي مصالح جاليتها، ويظهر الوضع الحقيقي والمتأزم في هرمية صناعة القرار الفرنسي.
ويتأكد تراجع باريس على الصعيد الخارجي، عبر تصاعد أزمتها مع إيطاليا ومع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد استدعت سفيري البلدين لديها للاحتجاج، على ما اعتبرته إساءة لسمعتها وسمعة الرئيس ماكرون.
هذا الأخير تعرض للسخرية من قبل نائب رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية ماتيو سالفيني، الذي علق مقترحه القاضي بإرسال جنود غربيين إلى أوكرانيا بالقول «فليذهب هو وليأخذ خوذته وبندقيته».
أما السفير الأمريكي لدى فرنسا، فقد وجّه رسالة مباشرة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، يندد فيها بما اعتبره تقاعسًا من جانب الحكومة الفرنسية في مواجهة ما يسميه «معاداة السامية»، وذلك بالرغم من الإجراءات الصارمة التي اتخذتها باريس في الآونة الأخيرة، والتي بلغت حد منع رفع علم فلسطين في بعض المظاهرات والتجمعات.
ويكشف هذا التناقض حجم الإرباك الذي تعيشه الدبلوماسية الفرنسية، فهي من جهة تُقدّم تنازلات تمسّ جوهر الحريات العامة، في محاولة لإرضاء أطراف خارجية نافذة. ومن جهة أخرى، تتعرض لانتقادات قاسية من حلفائها التقليديين الذين لا يرون تلك الإجراءات كافية.
وهذه المؤشرات مجتمعة تعكس الوضع الدقيق الذي وصلت إليه فرنسا دوليًْا، إذ باتت صورتها مهزوزة بين خطاب حقوقي تدّعيه وممارسات ميدانية تناقضه، وبين ضغوط داخلية وخارجية تجعلها في موقع الدفاع بدل المبادرة، وهو ما يُضعف قدرتها على لعب دور الوسيط المتوازن في القضايا الدولية الحساسة.