اللحظة التاريخيـة تفرض على باريس مراجعـة خطــــابهــا
تقترب فرنسا من لحظة اختبار سياسي- اقتصادي حقيقي في سبتمبر المقبل، مع تصويت الثقة على موازنة تقشفية واسعة من شأنها إسقاط الحكومة الحالية، فيما تتصاعد بالتوازي أزمة دبلوماسية مع الجزائر.
أزمة فرنسية داخلية غذّاها خطاب داخلي يميني متطرف فضل تحويل النقاش من الأرقام إلى اتهامات للخارج، بدلاً من تقديم مسار تنفيذي واضح لخفض العجز وضبط الديْن واستعادة ثقة السوق، وتمدد الجدل والأزمة المصطنعة نحو ملفات الهجرة والتأشيرات وترحيل الأفراد، حيث تحوّل وزير الداخلية روتايو إلى محور سجالي يتجاوز اختصاصه إلى وزير لكل الوزارات، الأمر الذي عمّق التداخل بين الأمني والخارجي والاقتصادي.
كذلك لم تُقنع حزمة الخفض المقترحة التي تصل عشرات المليارات الكتل البرلمانية الرئيسية، ما يرفع احتمال سقوط الحكومة. والتي استُخدمت أحداث أمنية لتسويق سردية «العدو الوهمي» تجاه الجزائر والجالية الجزائرية في فرنسا، بينما جاء رد الجزائر، في المقابل، بمبدإ المعاملة بالمثل وإشعارات رسمية دقيقة تحصر الخلاف في قنواته المؤسسية.
اقتصادٌ مضغوط وسياسةٌ تُصدِّر الإخفاق
العجز الفرنسي المسجَّل في العام الماضي عند مستوى مرتفع، ترافق مع نمو ضعيف وتوقعات بتباطؤ إضافي هذا العام، ما فرض على الحكومة طرح مسار خفض تدريجي يستهدف تقليص العجز في 2025 ثم في 2026، غير أن مصداقية التنفيذ تواجه برلماناً مجزأً ومعارضة واسعة من اليسار واليمين على حد سواء.
وبدلاً من استثمار رأس المال السياسي المحدود في تفاهمات تقنية حول بنود الإنفاق والإيرادات، انفتح النقاش العام على مسارات شعبوية تربط التدهور المالي بملفات الجزائر، من التأشيرات إلى الترحيل، ما جعل السياسة الخارجية تُستخدم داخلياً كأداة تعبئة أكثر منها ذراعاً لإدارة المصالح.
كذلك انعكست الضبابية على السوق فوراً عبر هبوط ملحوظ في الأسهم الفرنسية واتساع فارق عوائد السندات مع ألمانيا وارتفاع كلفة الاقتراض السيادي، وهي مؤشرات حساسة في اقتصاد يعتمد أصلاً على تمويل دين عام مرتفع.
في سياق متصل، صعّدت باريس بشكل هزلي غير مبرر في ملف الامتيازات القنصلية مع الجزائر وأعلنت تعليق ترتيبات الإعفاء السابقة لجوازات السفر الدبلوماسية والخدمة وتسويق سردية كاذبة في هذا الإطار، لترد الجزائر بإلغاء العمل بالترتيب ذاته وفق مبدإ الندية والمعاملة بالمثل؛ وبدلاً من جرّ هذا السجال إلى منابر مفتوحة تُغري بالمزايدات، اختارت الجزائر صيغة مكتوبة ومؤسسية تعيد كل خطوة إلى سندها القانوني وإلى قنوات التفاوض المباشر، وهو نهج يقلّص فرص التسييس الداخلي للقضية ويغلق أبواب التصعيد غير المحسوب.
كذلك استُدعي ملفات الترحيل المزعومة لبعض الجزائريين قلب النقاش عبر اتهامات بأن الجزائر رفضت مراراً إصدار التراخيص القنصلية اللازمة للترحيل، وهو طرح يُرضي عناوين الإعلام، لكنه لا ينتج حلولاً تشغيلية لمسائل التعاون القضائي والشرطي، ولا يقدّم بديلاً عن اتفاق إجرائي واضح قابل للتنفيذ لم تحترمه فرنسا نفسها.
علاوة على ذلك، فإن تحويل الجالية الجزائرية إلى موضوع صدام رمزي يضرّ بملفَي العمل والاندماج في فرنسا نفسها، ويُشوش على إصلاحات اقتصادية تحتاج أوسع قاعدة اجتماعية ممكنة. فبدلاً من المقاربة الثنائية الساذجة «إما الداخل أو الجزائر»، المطلوب ربط المسارين في سياسة واحدة، ضبط مالي مُحكم بتوقيتات قابلة للقياس، مع دبلوماسية تقنية هادئة مع الجزائر تُفكك ملفات التأشيرات والترحيل والتعاون القضائي بنداً بنداً، وتُحيدها عن السوق وعن البرلمان وفق مبدإ تعاوني يحترم الاتفاقيات الثنائية.
كذلك يمكن لعواصم الشمال والجنوب، حين تُدار علاقاتها بأدوات قانونية لا شعبوية، أن تُخفف أكلاف المخاطر وأن تُعيد التموضع نحو مشاريع إنتاجية وتصديرية تخدم الطرفين، بينما تُترك ملفات الخلاف لآليات متفق عليها لا تُستدعى فيها المنابر إلا لعرض النتائج.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أي حكومة تريد النجاة تحتاج في جوهر عملها إلى انضباط مؤسساتي داخلها قبل أي شيء، وزير داخلية يركز على الأمن ووزير خارجية يقود الملف الدبلوماسي ووزير مالية يقدم أرقاماً قابلة للتنفيذ، ورئيس حكومة يحشد توافقات صلبة حول بنود معينة. وهو عكس ما عاشته فرنسا خلال الأشهر الماضية، حيث تحول روتايو المتطرف، إلى فقاعة بصلاحيات غير محدودة غطت على الكل ما يفسر النتائج الحالية.
كذلك، لا تقاس صرامة الدولة بحدة خطابها، بل بقدرتها على عزل المسارات، التهدئة العملية مع الجزائر لتقليل الضجيج السياسي، والتشدد المحاسبي داخل الموازنة لإقناع الدائنين، وفتح قنوات هادئة مع الشركاء الأوروبيين لحماية التصنيف الائتماني.
هنا تحديداً، تبدو مصلحة باريس والجزائر متطابقة في خفض الكلفة السياسية والمالية للخلاف، لأن استمرار التصعيد يخسر الطرفين، خاصة الطرف الفرنسي، من دون مكسب اقتصادي واضح، والجزائر تمضي قدمًا بكل عزم، راسمة مسارًا جديدًا في علاقاتها الدولية، ومبينة أن زمن العلاقات غير المتوازنة قد ولّى إلى غير رجعة.
فهي اليوم تتحرك بمنطق الندية والاحترام المتبادل، مرتكزة على ما تملكه من مقومات سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية تجعلها رقما صعبًا في المعادلات الإقليمية والدولية.
وعلى باريس أن تدرك أن استمرارها في التعاطي بذات الذهنية القديمة، لن يجدي نفعًا. وأن اللحظة التاريخية تفرض عليها مراجعة خطابها وأدواتها إذا أرادت الحفاظ على موقع متوازن وبنّاء في شراكة مستقبلية مع الجزائر. فالأمر لم يعد يتعلق بمجرد مجاملات دبلوماسية، بل بخيارات إستراتيجية تتعلق بالسيادة والاستقلالية في القرار، حيث تُعيد الجزائر صياغة أولوياتها الخارجية وفق ما يخدم مصالح شعبها ويُعزز حضورها القاري والدولي، ومن لا يواكب هذا التحول قد يجد نفسه خارج معادلة الغد.