المنظومة الاقتصادية في منعرج حاسم

الخــروج مـن دوامـة الصدمة إلى رحاب الفعـل المنتــج للقيمـة المضافــة

سعيد بن عياد

رهان على الفلاحة، السياحة، الصناعة التحويلية والمعرفة العلمية

 «المؤسسات والشركات غير المعنية إلى حد الآن بالقبضة الحديدية للقضاء، مطالبة بأن ترفع من وتيرة نشاطها في كافة القطاعات وتستمر في الأداء، طالما أنها تتطابق مع معايير الشفافية والالتزام بالقانون وتستجيب لشروط تتعلّق بحقوق المجموعة الوطنية»
تجتاز المنظومة الاقتصادية الوطنية بمختلف أدواتها من مؤسسات ومرافق وهيئات منعرجا خطيرا وحاسما في ظلّ مسار مكافحة الفساد الذي يأخذ مجراه ضمن الآليات القانونية والقضائية ذات الاختصاص، في توجّه أكبر من أن يكون مجرد حملة ظرفية، بقدر ما هو خيار استراتيجي فرض نفسه بعد أن بلغت مؤشرات الوضع درجة الخطر على الأمن الوطني الشامل، مما استوجب العمل على إعادة الأمور إلى السكة السليمة، ضمن إستراتيجية إعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفقا لمعايير الديمقراطية والتعددية التي تستجيب لمصلحة المجموعة الوطنية وتدمج كل القوى الحية في المعادلة.
في الوقت الذي تقف فيه شريحة من مؤسسات ومقاولات في محطة التدقيق والمراقبة والتشخيص متأثرة بما حصل لأصحابها بعد أن أمسكت بهم العدالة ليجيبوا عن تهم طالتهم غداة سقوط العصابة، وقد فاحت منها رائحة فساد كريهة تعدت كل تصور، لا ينبغي أن يتعثر أداء مؤسسات وشركات غير معنية إلى حد الآن بالقبضة الحديدية للقضاء، ومن ثمة فهي مطالبة بأن ترفع من وتيرة نشاطها في كافة القطاعات وتستمر في الأداء، طالما أنها تتطابق مع معايير الشفافية والالتزام بالقانون وتستجيب لشروط تتعلق بحقوق المجموعة الوطنية، من دفع للضرائب وتصريح بالعمال لدى الضمان الاجتماعي واحترام لدفاتر الشروط الخاصة بالمشاريع الموكلة إليها والأكثر أهمية عدم انغماسها في أي شكل من أشكال جرائم الفساد، من رشوة وتضخيم للفواتير وغش في المعايير أو مضاربة بالصفقات وتبديد للمال العام وتهريب للعملة الصعبة وغيرها من أفعال تشكل تهديدا لحاضر ومستقبل البلاد. ويندرج ضمن هذا التوجه خيار الحكومة، على ما تثيره من جدل ونقاش في ظل الحراك الذي يتصدّر المشهد السياسي في انتظار انفراج الوضع بإرساء آلية للحوار يتوافق عليها كافة الشركاء، من أجل هدف واحد هو تمكين البلاد من الانتقال إلى مرحلة جادة تسمح بتجسيد التطلّعات ويلبي الانشغالات المشروعة التي يعبر عنها الشعب الجزائري بعنوان السعي إلى بناء مؤسسات دستورية جديدة تستمد شرعيتها من صلب الإرادة الشعبية المنسجمة مع الخط الوطني الواضح الذي أكدته القيادة العليا أكثر من مرة ولا يمكن أن يتجسد سوى عن طريق العمل بقوة ومن طرف الجميع للعودة إلى تفعيل مسار الانتخابات الرئاسية ومنها استكمال كافة حلقات البناء الوطني الجديد.

النجاعة والمرونة

حقيقة أمام المخاطر الاقتصادية والاجتماعية ومن ورائها الأمنية التي تلوح في الأفق، بفعل انسداد الوضع الذي يرشح أن يدخل مرحلة ديناميكية بناءة تساعد على تبديد الغموض وكل ما من شأنه أن يشكل حجر عثرة في وجه إعادة بناء الثقة، إذا ما انحاز جميع الشركاء، من أحزاب ومجتمع مدني، بما في ذلك الفاعلين في الحراك لخيار الحوار الشامل والحر حول مفتاح الخروج من الأزمة، تبرز مسؤولية الفاعلين الاقتصاديين بمختلف القطاعات في تقديم الإضافة المطلوبة من خلال الخروج من دوامة الصدمة إلى رحاب الفعل الاقتصادي من استثمار إلى رفع في الإنتاج مرورا بتعزيز قدرات التصدير التي تشكل الحلقة المتينة في سلسلة النموذج المطلوب لمواجهة الأزمة المالية. في هذا الإطار يمكن إدراج قرار تنظيم اجتماعات يومية لمجلس مساهمات الدولة ابتداء من اليوم الأحد من أجل أخذ زمام الأمور الجادة مجددا حتى يمكن توقيع بداية إعادة بعث الحركية الاقتصادية في البلاد، قصد الرّفع من معدّلات المساهمة التي تقدمها للتنمية الوطنية، التي لا يجب أن تسقط في دوامة الانتظار، وإنما ينبغي أن تستأنف دورها بسرعة في الساحة وفقا لمعايير النّجاعة والتكيّف مع المؤشرات الجديدة المطابقة لشروط النمو عن طرق اعتماد تنظيم مرن للمؤسسات من شأنه أن يعطي نفسا للمبادرة ويوفر شروط الشفافية والحوكمة وترشيد النفقات بعيدا عن التقشف الذي يخضع لإرادة بيروقراطية ويقطع وتيرة الحركية الايجابية. لكن في هذا الظرف الحاسم بالنسبة لمستقبل معادلة النمو لا تزال هناك فرص وإن كانت محدودة للنهوض مجددا في قطاعات عديدة، لو يبادر القائمون عليها بتقديم الإضافة المناجيريالية التي تسمح بتصحيح المعطيات ووضعها في مسارات ترتكز على رؤية شاملة وذات أهداف واضحة ودقيقة لا تخرج عن أطر إنتاج الثروة وتقليص النفقات وحسن تسيير المشاريع وغيرها من متطلبات النمو الذي تمّت مراجعة معدلاته سلبا أكثر من مرة من جانب خبراء وكنيين وأجانب أبرزهم المنضوين تحت صندوق النقد الدولي ويتميزون بتحاليل صارمة وتوقعات في الحد الأدنى تدعو في الغالب إلى وضع الدعم الاجتماعي في مرتبة متأخرة مقارنة بالمتطلبات النقدية والمالية.

خطر الأفامي في الأفق

بطبيعة الحال السقوط في مخالب هذه الرؤية السلبية والصارمة، التي لا تعترف بالتمويلات العمومية ذات الطابع الاجتماعي، من دعم لأسعار السلع واسعة الاستهلاك وتمويل للمدرسة العمومية وحماية الفئات الهشّة ومرافقة القطاع العام، مع تفضيل للخوصصة واسعة النطاق وإطلاق مخالب القطاع الخاص وتقليص دور الدولة، يشكل خطرا محدقا على المجموعة الوطنية، لكن الإفلات منها لا يزال متاحا ولو بأقل ضرر وبكلفة متحكم في تداعياتها، إذا تحركت قطاعات حيوية مثل، الفلاحة والسياحة والصناعة التحويلية وكل ما يدخل في اقتصاد المعرفة، من جامعات ومراكز بحث في مجالات الطاقة المتجدّدة واقتصاد الطاقة التقليدية وتسيير النفايات. وقد بدأ العمل على ملف تسيير الحبوب باتجاه إعادة تصحيح الوضع من تبعية مفرطة لاستيراد فاحش وغير متحكم في مصاريفه إلى تنمية الموارد الإنتاجية المحلية المثيرة للانتباه ومرافقتها بتوفير البنية التحتية للتخزين والتحويل، حتى لا يضيع فائض الإنتاج أو يتمّ التلاعب بالكميات المستوردة، وهو حقيقة ملموسة عبثت به ممارسات بيروقراطية مثلما كشفت عنها القرارات الأخيرة التي شملت توقيف 45 مطحنة فيما تخضع 333 أخرى للتدقيق حتى يمكن الفرز بين الاحترافيين والملوثين بالفساد، مع الحرص على إعادة انتشار قدرات التجميع والتخزين بالرهان على تلك المتوفرة في القطاع العام من مطاحن ومخازن يمكنها أن تفي بالغرض، كون الحبوب من قمح وشعير تعتبر من المواد الإستراتيجية التي تستنزف الخزينة العمومية ولا مجال فيها للتهاون أو التردّد في مكافحة أي شكل من الفساد يتسلّل إليها.

من ثقافة الملتقيات إلى الفعل المنتج

نفس التوجه ينبغي أن يخص به قطاع آخر وهو جدير بان يكون من روافد الديناميكية التنموية بإمكانيات محلّية، ويتعلق الأمر بالسياحة بحيث لا يعقل أن تبقى على هامش التحولات الحتمية وإنما يمكنه أن يحقق الفارق المفقود من تراجع إيرادات النفط بفعل تدهور حالة الأسواق البترولية منذ حوالي خمس سنوات مضت، خاصة وأن كل توابل النجاح قائمة، سواء يتعلق الأمر بالجغرافيا ذات التنوع الطبيعي أو الثقافة الثرية والمتميزة والأكثر تحفيزا لهذا النمط الاقتصادي الذي يرتكز أساسا على تسويق الابتسامة المناخ الاجتماعي العام المتسم بالاستقرار والهدوء، علما أن استثمارات كبيرة قد رافقتها الدولة بمختلف أشكال الدعم، سواء تخصيص العقار والتمويل البنكي وكذا تحفيز الطلب الداخلي، خاصة في مواسم السياحة الفصلية، إلا أن المرافق السياحية عموما لا تواكب هذا الاتجاه بمراجعة أسعار الخدمات المرتفعة وغير المنافسة مقارنة بوجهات إقليمية تستقطب حجما هائلا من الطلب المحلي. كما للخدمات واقتصاد البيئة إلى جانب مواقع إنتاج المعرفة العلمية دور من شأنه أن يحرّك دواليب المنظومة الاقتصادية بمختلف قطاعاتها، لتقدم الإضافة التي من شأنها أن تعزّز محركات النمو التقليدية المتمركزة حول قطاع المحروقات، بحيث يمكن لهذا الأخير أن يتدارك حتمية التحول الطاقوي بالإسراع في إعادة تنشيط مشاريع الطاقات المتجدّدة خاصة الشمسية منها ضمن ورقة طريق تقحم جميع القطاعات المستهلكة وأولها البناء والمرافق الكبرى والمنشآت القاعدية ليتمّ توقيع بداية التحوّل من الأساس والخروج من ثقافة الدراسات والملتقيات والبحث في مسائل محسومة تنتظر فقط الفعل الملموس.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024
العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024