الخبير الاقتصادي مراد كواشي لـ”الشّعب”:

الرئيس تبون يتبنى دبلوماسية استباقية وانفتاحا متعدّد الأقطاب

هيام لعيون

 شراكة إستراتيجية نحو السوق الآسيوية والإفريقية

“آسيان” تعكس مبادئ التعاون التي تتبناها الجزائر تاريخيا

إعادة التوازن إلى علاقات الجزائر الاقتصادية الدولية

تعزيز موقع بلادنا التفاوضي من موقع الندية..لا التبعية

 في ظل تسارع وتيرة التحولات على الساحة الدولية، لم تبقَ الجزائر بمنأى عن هذه الديناميكية العالمية، بل سعت إلى مواكبتها عبر تبنّي رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، تستند إلى تعزيز الشراكات والانفتاح على فضاءات اقتصادية متعدّدة الأقطاب، بما يدعم حضورها الإقليمي والدولي. ويأتي انضمام الجزائر إلى معاهدة الشراكة مع تكتّل دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، كواحد من أبرز المؤشّرات على هذا التحول النوعي في السياسة الاقتصادية والدبلوماسية للبلاد، لما يحمله من أبعاد سياسية، اقتصادية وتنموية واعدة.

يُعد التوجّه خطوة مدروسة في سياق دولي شديد الاستقطاب، تتزايد فيه التوترات التجارية وتُعاد فيه صياغة التحالفات الاقتصادية، ممّا يمنح خيار الجزائر بُعداً استراتيجياً في تنويع شراكاتها بعيداً عن المحاور التقليدية. وتترجم هذه الخطوة مساعي الدبلوماسية الجزائرية، بقيادة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، نحو بناء شبكة علاقات دولية متوازنة تعزّز مكانة الجزائر كلاعب مسؤول في خريطة الاقتصاد العالمي الجديد.
ويؤكّد البروفيسور والخبير الاقتصادي مراد كواشي أنّ انضمام الجزائر إلى معاهدة “آسيان” (رابطة دول جنوب شرق آسيا)، يمثل “خطوة جديدة في مسار النجاحات المتتالية التي حقّقتها الدبلوماسية الجزائرية في الآونة الأخيرة”، مشيرا إلى أنها “دبلوماسية رئاسية واستباقية بامتياز، يقودها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، وتمكّنت من تحقيق نتائج نوعية على الصعيد الدولي”.
وأوضح البروفيسور كواشي في حديثه مع “الشّعب”،  أنّ الجزائر وسّعت مجال حضورها الدولي، سواء على مستوى القارة الإفريقية أو في علاقاتها المتينة مع عدة دول أوروبية، مثل إيطاليا التي أصبحت “منصة لتوزيع الغاز الجزائري نحو أوروبا”، وكذلك مع تركيا التي تجمعها بالجزائر “علاقات تجارية واستثمارية كبيرة”، إلى جانب العلاقة الاستراتيجية مع روسيا، الحليف التقليدي للجزائر.
وفي الجانب الآسيوي، أشار الخبير إلى أنّ الجزائر “ترتبط بعلاقات قوية واستثمارية مع الصين، التي أضحت أكبر مورد تجاري للجزائر”، بالإضافة إلى علاقات متينة مع عدد من الدول العربية في الخليج مثل قطر وسلطنة عمان. كما أشار ذات المتحدث إلى بعد العلاقات الجزائرية الأمريكية، مبرزا أنه “منذ أيام فقط، استقبل رئيس الجمهورية ممثلي ثاني وثالث أكبر شركتين طاقويّتين في العالم: شيفرون وإكسون موبيل، ممّا يعكس الاهتمام الأمريكي المتجدّد بالاستثمار في الجزائر”. وأكّد كواشي أنّ التوجّه الجزائري نحو الانضمام إلى رابطة “آسيان” يعد بمثابة “استكشاف لمنطقة جديدة” هي جنوب شرق آسيا، والتي تعد من أسرع المناطق نموا في العالم، حيث تأسّست الرابطة في سبعينات القرن الماضي، وتمكّنت من تحقيق معدلات نمو فاقت 9,7%، ممّا سمح لها ببناء اقتصاد تتجاوز قيمته 3,6 تريليون دولار.
وأوضح أنّ تكتل “آسيان” بات يشكّل “ثالث أكبر تكتل اقتصادي في آسيا، والخامس عالميا”، ويضم دولا رائدة مثل ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، الفلبين، وتايلاند، وكلها نجحت في بناء اقتصادات متقدمة خاصة في مجالات اقتصاد المعرفة، الذكاء الاصطناعي، تكنولوجيا المعلومات، والإعلام الآلي. وضمن هذا الإطار، أبرز البروفيسور كواشي أنّ “هذا الانضمام يمثل فرصة إستراتيجية للجزائر لتعزيز تنويع شراكاتها الاقتصادية والانفتاح على فضاءات جديدة قادرة على دعم التنمية الاقتصادية الوطنية”.

مليار دولار..حجم التبادلات التجارية

 وفي تحول دبلوماسي واقتصادي لافت، قال مراد كواشي أنّ انضمام الجزائر إلى معاهدة رابطة دول جنوب شرق آسيا، “فصل جديد من  النجاحات التي سطّرتها الدبلوماسية الجزائرية في الآونة الأخيرة”، مؤكّدا أنّ الجزائر بصدد عقد “شراكة حقيقية مع فضاء آسيوي مهم جدا”. وأوضح كواشي أنّ حجم التبادلات التجارية بين الجزائر وهذا الفضاء يقدّر اليوم بـ مليار دولار، وهو رقم “مؤهّل للزيادة بقوة خلال السنوات القليلة القادمة”، بالنظر إلى توفّر “مجالات واسعة للشراكة في قطاعات التكنولوجيا، الزراعة، والطاقة”. وأشار الخبير إلى أنّ انضمام الجزائر لهذا التكتل الإقليمي “قد يشكّل بديلا حقيقيا لمجموعة البريكس”، بالنظر إلى “القيمة الاقتصادية والمعنوية لتكتل آسيان، وإلى المبادئ التي تأسّس عليها، والتي تتقاطع مع الثوابت السياسية والدبلوماسية الجزائرية”.
وأكّد أنّ رابطة “آسيان”، التي تأسّست منذ سبعينات القرن الماضي، “بنيت على مبادئ حضارية وتاريخية وثقافية، وتضمّ دولا تؤمن بمبدأ عدم الانحياز مثل الجزائر”، مذكّرا بـ “عمق النضال المشترك بين الجزائر وإندونيسيا منذ نهاية ستينات القرن الماضي، والذي كرّس قواسم سياسية مشتركة تقوم على احترام سيادة الدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وحق الدول في التنمية الاقتصادية”.
وقال  كواشي إنّ هذا “الانسجام السياسي العميق يمكن أن يكون تمهيدا لشراكة اقتصادية حقيقية بين الجزائر ودول آسيان”، لا سيما أنّ هذا التكتل الاقتصادي “يتطلّع إلى التمدّد نحو القارة الإفريقية، ويعتبر الجزائر بوابة إستراتيجية للسوق الإفريقية، التي يبلغ حجمها 1,5 مليار نسمة، وتحوّلت إلى ساحة تنافس بين القوى الكبرى مثل الصين، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية”. وفي هذا السياق، أّكد كواشي أنّ “الجزائر باتت اليوم بيئة استثمارية واعدة، بعد التحسينات الجذرية التي قامت بها في مناخ الأعمال، خاصة عبر قانون الاستثمار الجديد، ما يجعلها مؤهّلة لاستقطاب استثمارات أجنبية من دول آسيوية رائدة مثل ماليزيا، تايلاند، وسنغافورة”. وشدّد في نفس السياق على أنّ هذا التوجّه نحو آسيان “يعزّز موقع الجزائر كقوة إقليمية صاعدة، ويمنحها أدوات جديدة للمناورة في عالم متعدّد الأقطاب”.

ورقة رابحة في وجه الضغوط الغربية

 إضافة إلى ذلك، يرى كواشي أنّ الجزائر يمكنها أن تستفيد من النموذج الاقتصادي لدول تكتّل جنوب شرق آسيا، وهو نموذج استثنائي ومتفرّد على الصعيد العالمي، حيث نجحت هذه الدول في بناء حضارتها الاقتصادية وثرواتها الوطنية من خلال التركيز على الإنسان كمحور أساسي للتنمية، وأوضح أنّ هذه الدول أولت أهمية كبيرة لتنمية رأس المال البشري، واستفادت كثيرا من المفكّرين الكبار، وعلى رأسهم المفكّر الجزائري مالك بن نبي، الذي ألهم بمفاهيمه حول “قابلية الشعوب للاستعمار” و«بناء الحضارة” كثيرا من الرؤى التنموية في بلدان كإندونيسيا وماليزيا.
وفي هذا السياق، أشار كواشي إلى أنّ الجزائر، وهي في إطار مراجعة نظامها التعليمي، يمكنها استلهام تجربة دول التكتّل، خاصة ماليزيا وإندونيسيا، وغيرها من أجل بناء نموذج جزائري جديد للتنمية البشرية، إضافة إلى تطوير التكوين والتعليم المهنيّين، بهدف تأهيل القدرات البشرية الجزائرية لتكون قادرة على قيادة التحول الاقتصادي والاجتماعي المنشود.
وأكّد أنّ قوة هذه الدول بنت قوّتها بحسن استغلال مواردها البشرية، وهو ما يمكن للجزائر أن تستلهمه بعمق لتحقيق الطفرة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية. من جهة أخرى، أوضح ذات المتحدث  أنّ الانضمام إلى هذا التكتل الإقليمي يأتي في سياق عالمي يشهد حالة من الاستقطاب الشديد، ما يفرض على الدول البحث عن فضاءات أقل توترا وأقرب إلى التوازن. واعتبر أنّ انضمام الجزائر إلى “آسيان” يساهم في تخفيف حدة هذا الاستقطاب عنها، ويمنحها فضاء للشراكة لا يقوم على الإملاءات أو الضغوط السياسية.
وشدّد الخبير الاقتصادي على أنّ الشراكة مع دول آسيان ستكون مبنية على أسس اقتصادية وثقافية واجتماعية متوازنة، تنطلق من الاحترام المتبادل والسيادة الوطنية، وتعكس مبادئ التعاون التي تتبناها الجزائر تاريخيا، والمبنية على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وحق الشعوب في التنمية والتقرير الحرّ لمصيرها، ووفق المبادئ المتبادلة والمصالح المشتركة لكل شعوب هذه الدول.
وضمن هذا الإطار، أكّد كواشي أنّ انضمام الجزائر إلى تكتل دول جنوب شرق آسيا وتوقيعها على معاهدة الشراكة مع هذا الفضاء الإقليمي يدخل في إطار تنويع الشركاء الاقتصاديّين والاستراتيجيّين، وهو توجّه بالغ الأهمية في ظل التحديات العالمية المتسارعة. وأوضح أنّ الواقع الدولي اليوم يفرض على مختلف دول العالم، ومنها الجزائر، الانخراط في فضاءات اقتصادية متعدّدة لتجاوز الضغوط المتزايدة، سواء تلك المرتبطة بالتقلبات الجيوسياسية أو بالقيود التجارية المفروضة من بعض القوى الكبرى.

شراكة خالية من الإملاءات السياسية

 كما اعتبر محدثنا، أنّ الانخراط في هذا التكتّل يمثل ورقة رابحة في يد الجزائر، خصوصا عشية مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مؤكّدا أنّ لسان حال الجزائر اليوم تجّاه الأوروبيّين هو “لسنا مضطرين للتفاوض وفق شروطكم فقط، لأنّ لدينا بدائل أخرى وشركاء جدد يمكننا التعويل عليهم”. وأضاف أنّ هذه الشراكة مع الفضاء الآسيوي لا تكتفي بتوسيع الخيارات الاقتصادية، بل توفّر للجزائر ورقة ضغط فعّالة على الاتحاد الأوروبي، في سياق إعادة التوازن إلى علاقاتها الاقتصادية الدولية، وتعزيز موقعها التفاوضي من موقع الندية، لا التبعية.
وخلص محدثنا إلى التأكيد على أنّ انضمام الجزائر إلى تكتل “آسيان” لا يمثل مجرّد خطوة اقتصادية ظرفية، بل هو تحول استراتيجي متعدّد الأبعاد، يكرّس رؤية جديدة للانفتاح على قوى صاعدة، ويوسّع هامش المناورة السياسية والاقتصادية للجزائر، هذا الانفتاح يعزّز تموقع الجزائر كقوة إقليمية صاعدة، ويوفّر لها أدوات جديدة للتفاوض، ويؤسّس لتحول استراتيجي في سياستها الاقتصادية الخارجية
والدبلوماسية الاقتصادية، التي تلعب دورها مهما في إطار النهضة الاقتصادية التي تشهدها بلادنا خلال السنوات الأخيرة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19820

العدد 19820

السبت 12 جويلية 2025
العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025
العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025