نمـوذج متكامـل قـادر علــى الإسهـام الفعّـال في بنــاء قـارّة نظيفــة ومزدهرة
يعتبر ملف إدارة النفايات أحد أعقد التحديات التي تواجه القارة الإفريقية، لما يحمله من أبعاد بيئية وصحية واقتصادية تمس بشكل مباشر مسار التنمية المستدامة. وفي هذا السياق، يرى الخبير في البيئة كريم ومان أنّ التجربة الجزائرية تمثّل نموذجا متكاملا قادرا على الإسهام الفعّال في بناء إفريقيا موحّدة وآمنة، من خلال مقاربة عملية تتجاوز حدود التقنية إلى مسار تنموي مستقل، يعكس جوهر التعاون جنوب - جنوب الذي تدافع عنه الجزائر منذ عقود.
إفريقيا، بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، مقبلة على أزمة بيئية وصحية خانقة، إذ من المتوقع أن تتضاعف كمية النفايات لتبلغ 144 مليون طن بحلول 2050، نتيجة النمو السكاني المتسارع وتمدين المجتمعات. هذا الوضع يهدد بانهيار أنظمة الإدارة الهشّة أصلا، ويحول دون تحقيق أهداف أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، التي تقوم على التنمية الشاملة والمستدامة.
غياب الأطر التنظيمية الفعالة، وضعف التمويل، ونقص الكفاءات المؤهلة في مجال إدارة النفايات، تشكّل أبرز العوائق. فغياب الحكم الرشيد في هذا القطاع يفرمل تبني حلول الاقتصاد الدائري، فيما يؤدّي سوء التسيير إلى انبعاث ما بين 5 و7 بالمائة من الغازات الدفيئة، ما يضاعف المخاطر المناخية في القارة، في تناقض صارخ مع الهدف الأول لأجندة 2063 القائم على تنمية تراعي البيئة.
حلّ إفريقي لمعضلة إفريقية
يؤكّد الخبير كريم ومان أنّ الجزائر طوّرت نموذجا عمليا مجرّبا، يمكن أن يشكل مرجعا للقارة. فهو ليس مجرد نظرية أو استيراد لتكنولوجيا معزولة، بل منظومة متكاملة تنبع من واقع محلي، وتستجيب لتحديات بيئية مشتركة بين الدول الإفريقية.
هذا النموذج يقوم على ثلاث ركائز أساسية: الرؤية الاستراتيجية للدولة، انخراط القطاعين العام والخاص، والتكامل المؤسساتي. الجزائر أنشأت شبكة واسعة من مراكز الردم التقني كبديل عن المكبّات العشوائية، ما حدّ من انتشار التلوث وأرسى قواعد إدارة عصرية للنفايات. كما وضعت أُطرا تنظيمية تسمح بمتابعة دقيقة وتقييم دوري للأداء، وهو ما يمكن نقله إلى دول أخرى في القارة لتعزيز قدراتها المؤسسية.
من العبء إلى مصدر دخل
أحد العناصر البارزة في التجربة الجزائرية هو إشراك القطاع الخاص في عملية تثمين النفايات، فقد نجحت العديد من الشركات في تحويل النفايات من عبء بيئي إلى مورد اقتصادي، يدرّ دخلا ويخلق مناصب شغل، ويحفز نماذج أعمال مبتكرة. هذه الديناميكية تعكس ما تدعو إليه الأجندة الإفريقية من اعتماد القارة على طاقات أبنائها لتحقيق النمو الشامل، بدل الارتهان للتمويلات الخارجية المشروطة.
وفي هذا السياق، يمثّل تثمين الغاز الحيوي الذي طوّرته الجزائر خطوة رائدة، إذ سمح بجمع الغازات المنبعثة من مراكز الردم وتحويلها إلى طاقة نظيفة. هذه التجربة تعطي مثالا عمليا على كيفية تحويل الملوثات إلى موارد، ما يعزّز الأمن الطاقوي ويحد من الانبعاثات في آن واحد.
لم تقتصر التّجربة الجزائرية على النفايات المنزلية فقط، بل طوّرت خبرة معتبرة في إدارة النفايات الخطرة، التي تعد أكبر تهديد للصحة والبيئة في القارة. وقد وضعت الجزائر بروتوكولات ومعايير صارمة لمعالجة هذا النوع من النفايات، وهو ما يشكّل إضافة نوعية يمكن للدول الإفريقية الاستفادة منها لمواجهة التلوث الصناعي والطبي المتنامي.
نحو شراكة بيئية إفريقية
النموذج الجزائري في إدارة النفايات يقدَّم اليوم كأداة ملموسة لتعزيز التعاون الإفريقي-الإفريقي، فهو ينسجم مع روح الأجندة 2063 القائمة على التكامل الإقليمي، ويؤسّس لإفريقيا قادرة على إيجاد حلول ذاتية لمشاكلها بدل انتظار وصفات خارجية.
إنّ التحديات البيئية التي تواجه القارة تتطلّب إرادة سياسية قوية ورؤية جماعية، لكن ما يميز التجربة الجزائرية أنها تثبت أن الحلول ممكنة وفعالة إذا توافرت آليات التمويل الملائمة، وانخرطت المؤسسات والقطاع الخاص والمجتمع المدني في مسار واحد.
من تجربة وطنية إلى نموذج قاري
من خلال هذه المقاربة، تؤكّد الجزائر استعدادها لمشاركة خبرتها المؤسساتية والتقنية مع شركائها الأفارقة، سواء في بناء مراكز الردم التقني، أو في تطوير البنى التحتية الخاصة بتثمين الغاز الحيوي، أو في صياغة الأطر القانونية التي تنظم القطاع. بهذا، تتحوّل التّجربة الجزائرية من نجاح وطني إلى نموذج قاري، يفتح أمام إفريقيا آفاقا جديدة للتصنيع المستدام، ويعزّز مسارها نحو نهضة بيئية واقتصادية متوازنة.
إنّ معالجة النّفايات ليست قضية تقنية بحتة، بل هي خيار استراتيجي لبناء إفريقيا آمنة ومزدهرة، والنّموذج الجزائري يقدّم برهانا حيّا على أنّ الحلول الإفريقية لمشاكل إفريقيا ممكنة وواعدة.