معـرض التجـارة البينيـة يؤســّس لمرحلـة جديـدة من التكامـل القاري

جزائر الأحرار تقـود الأفارقة لاستعـادة زمام المبادرة الاقتصادية

محمد لعرابي

 تأسيــس نظـام مالـي متماسـك وقـادر علـى فـرض نفسـه في الساحة الدولية

 شكّلت الطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية، التي احتضنتها الجزائر ما بين 4 و10 سبتمبر 2025، حدثًا فارقًا في المسار الاقتصادي للقارّة، ليس فقط لكونها تظاهرة تجارية كبرى جمعت ممثلين عن 132 دولة، بل لأنها جسّدت بشكل عملي استعادة إفريقيا لزمام المبادرة الاقتصادية، بعد عقود من التبعية والتهميش في المشهد الدولي. فقد تحولت الجزائر، عبر هذا الحدث، إلى منصة مركزية لإبراز القدرات الإفريقية وتكريس قناعة راسخة بأنّ المستقبل الاقتصادي للقارّة يصنع من داخلها وبإرادة جماعية، بعيدًا عن الأدوار الثانوية التي حُصرت فيها سابقًا.

 استضافة الجزائر لهذا الموعد لم تكن مجرّد قرار تنظيمي، بل خيار استراتيجي عكس إصرارها على أن تتحمل مسؤولياتها القارية، وقناعتها بأنّ التنمية الاقتصادية تمثل مفتاح الأمن والاستقرار في إفريقيا. من خلال هذا المعرض، أكّدت الجزائر أنها ليست مجرّد بلد مضيف، بل محرّك أساسي للاندماج القاري، ورمز للتكامل الاقتصادي الذي تتطلّع إليه الشعوب الإفريقية. فقد وفّرت البنية التحتية، وضمنت الظروف المثالية لإنجاح التظاهرة، لتثبت أنها قادرة على أن تكون جسرًا يربط بين دول القارّة ويضعها في موقع أفضل داخل الاقتصاد العالمي.

أرقـام تؤكّـد النجـــاح

 لغة الأرقام كانت خير شاهد على حجم النجاح، إذ تجاوز عدد الزوار 112 ألف مشارك، منهم أكثر من 60 ألف حضوريا، إضافة إلى نحو 52 ألف متابع عن بعد. كما جمع المعرض 2.148 عارضًا من مختلف الدول الإفريقية وخارجها، فيما بلغت قيمة العقود المبرمة 48.3 مليار دولار، وهو رقم فاق التوقّعات المسبقة، مع تسجيل 987 مشتريًا مهنيًا. الأهم من ذلك، أنّ المؤسسات الجزائرية تمكّنت من اقتناص حصة وازنة بلغت 23 مليار دولار، نصفها تقريبًا في شكل صفقات مبرمة والنصف الآخر في طور التفاوض، ما يعكس قوة العرض الجزائري وقدرته التنافسية في السوق الإفريقية.
نتائج هذه الطبعة لم تتوقّف عند حجم المبادلات التجارية أو تنوع المشاركات، بل حملت دلالات أعمق تتعلّق بالسيادة الاقتصادية الإفريقية. فالمعرض مثّل تجسيدًا حيًا لفكرة أنّ القارّة لم تعد تقبل أن تبقى على هامش الاقتصاد الدولي، بل هي بصدد بناء شراكات متوازنة تقوم على الندية وتقاسم المنافع. وقد برز ذلك من خلال إطلاق صندوق خاص لتمويل المؤسّسات الناشئة والمبتكرة، بادر إليه الجانب الجزائري، ليستهدف الشباب الإفريقي باعتباره رافعة محورية للنهضة والتنمية المستدامة.
هذا التوجّه يعكس تحولًا نوعيًا في طريقة تعاطي إفريقيا مع واقعها الاقتصادي، فهي اليوم أكثر وعيًا بضرورة استغلال إمكاناتها الذاتية وتوظيف طاقاتها البشرية والطبيعية لتحقيق تنمية شاملة ومستقلة، بدل الاكتفاء بدور المتلقي لسياسات مفروضة من الخارج.

استجابــــة للتحديــــات العالميــــة

  جاء المعرض في ظرف دولي معقّد يطغى عليه التنافس الحاد بين القوى الكبرى والأزمات الاقتصادية والطاقوية المتلاحقة، وهو ما جعل إفريقيا أمام خيار مصيري: إما البقاء على الهامش كما حدث خلال الثورة الصناعية والمعلوماتية، أو اقتحام ميادين الرّقمنة والطاقات المتجدّدة والتكنولوجيات المتقدمة، مثل الروبوتيك والنانوتكنولوجيا. نجاح الطبعة الجزائرية أكّد أنّ القارّة اختارت الخيار الثاني، عبر الاستثمار في القدرات الذاتية وتفعيل منطقة التجارة الحرّة القارية وتعزيز البنوك الإفريقية، بما يؤسّس لنظام اقتصادي قاري متماسك وقادر على فرض نفسه في الساحة الدولية.
ومن خلال احتضانها للطبعة الرابعة، أثبتت الجزائر أنها عاصمة اقتصادية إفريقية بامتياز، قادرة على جمع القادة والخبراء ورجال الأعمال في فضاء واحد، وتحويله إلى ورشة عملية لصياغة ملامح الاقتصاد الإفريقي الجديد.
 لقد ساهمت في خلق أجواء من الثقة بين مختلف الفاعلين، وأعادت التأكيد على أنّ نجاح التكامل القاري يمر عبر بوابة التعاون جنوب-جنوب، وهو النهج الذي لطالما دافعت عنه الجزائر.
كما أنّ تنظيم هذا الحدث أعطى دفعة قوية لمسار الاندماج الإفريقي، حيث برزت إرادة مشتركة لتعزيز المبادلات التجارية البينية والحدّ من التبعية للأسواق الخارجية. فالرهان لم يعد فقط على التصدير نحو الشمال أو الشرق، بل على بناء سوق إفريقية موحّدة قادرة على استيعاب منتجات وخدمات القارّة وتطوير سلاسل إنتاج متكاملة.

نحو اقتصـاد إفريقي جديــــد

 النجاح الذي تحقّق في الجزائر يعكس بداية مسار طويل نحو بناء اقتصاد إفريقي جديد، يقوم على تنويع مصادر النمو وتشجيع الابتكار وتثمين الكفاءات الشابة. وهو نجاح يحمل رسالة واضحة للعالم مفادها أنّ إفريقيا لم تعد مجرّد سوق للمواد الأولية، بل فضاء للإنتاج والشراكات المتكافئة.
إنّ الدرس الأبرز من هذه الطبعة يتمثل في أنّ المبادرة الإفريقية ليست مجرّد شعار سياسي، بل مشروع اقتصادي واقعي يتجسّد في صفقات، شراكات، ومؤسّسات ناشئة ستغيّر وجه القارّة خلال السنوات المقبلة.
لقد أثبتت الجزائر، من خلال استضافتها ومعالجتها الناجحة لمعرض التجارة البينية الإفريقية، أنها قاطرة حقيقية للمبادرة الاقتصادية القارية. فالنتائج لم تكن مجرّد أرقام قياسية، بل ترجمة لإرادة سياسية جماعية تسعى إلى بناء قارة قوية، مستقلة، وفاعلة في الاقتصاد العالمي. وبهذا، يمكن القول إنّ إفريقيا استعادت زمام المبادرة من قلب الجزائر، واضعة أسس نهضة اقتصادية طال انتظارها، ومرسّخة قناعة أنّ مستقبل القارّة لا يصنع إلا بأيدي أبنائها، ومن داخلها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19874

العدد 19874

السبت 13 سبتمبر 2025
العدد 19872

العدد 19872

الأربعاء 10 سبتمبر 2025
العدد 19871

العدد 19871

الثلاثاء 09 سبتمبر 2025
العدد 19870

العدد 19870

الإثنين 08 سبتمبر 2025