آليـات عمليــة لتسريـــع بنـاء السّـوق الإفريقيـة الموحّـدة
شكّل معرض التجارة البينية الإفريقية في طبعته الرابعة «إياتياف 2025»، الذي احتضنته الجزائر بين 4 و10 سبتمبر، محطّة اقتصادية بارزة في مسار التكامل القاري، بعدما حقّق أرقامًا قياسية بصفقات تجاوزت 48.3 مليار دولار، منها 11.4 مليار تخص الجزائر. هذه النّتائج تعكس متانة الاقتصاد الجزائري ودوره المحوري في دعم التعاون الإفريقي، مثلما يؤكّده أستاذ الاقتصاد الدولي البروفيسور ساري نصر الدين لـ «الشعب».
في تصريح لـ «الشعب»، يرى أستاذ الاقتصاد الدولي البروفيسور ساري نصر الدين، أنّ الخطوة الأولى في هذا الإطار تتمثل في إنشاء لجان متابعة ثنائية ومتعددة الأطراف تضم ممثلين عن الحكومات والقطاع الخاص والبنوك، تكون مسؤولة عن وضع رزنامة زمنية دقيقة، وتحديد المسؤوليات بوضوح، وضبط مؤشرات الأداء الرئيسية لمتابعة مدى تقدّم المشاريع. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الاتفاقية تخص النقل البحري أو الطيران، ينبغي أن تُترجم إلى عقود استثمارية لبناء موانئ جافة أو فتح خطوط جوية مباشرة ضمن آجال زمنية محدّدة.
كما أوضح أنّ تعبئة التمويل تعد شرطًا أساسيًا، إذ لا يمكن لأي مشروع أن يرى النور من دون آليات تمويل فعّالة، وهنا يبرز دور بنك «أفريكسيم»، والبنك الإفريقي للتنمية، وصندوق الضمان الإفريقي، إضافة إلى البنوك المحلية التي يتعين عليها مرافقة المستثمرين عبر قروض ميسّرة وضمانات سيادية. وتبرز أيضًا أهمية الصيرفة الإسلامية والتمويل المبتكر كخيارات تعزّز مشاركة رؤوس الأموال المحلية.
أمّا على الصعيد المؤسّساتي، فإنّ تذليل العقبات البيروقراطية وتبسيط الإجراءات الجمركية يعدان عاملين أساسيين لضمان انطلاقة ناجحة للمشاريع، فلا معنى لاتفاقيات تجارية ضخمة إذا بقيت السلع حبيسة المعابر الحدودية لأسابيع بسبب التعقيدات الإدارية. وقد أظهرت تقارير الاتحاد الإفريقي أنّ 40 بالمائة من التكاليف اللوجستية في إفريقيا تعود للتأخر الإداري والجمركي، ما يجعل الإصلاح المؤسساتي أولوية قصوى.
إلى جانب ذلك، يبقى الاستثمار في تطوير البنية التحتية الرقمية أمرًا حتميًا، باعتبارها أداة لمتابعة المشاريع وتعزيز الشفافية. فإقامة منصّات رقمية مشتركة بين الدول الإفريقية لتتبع مراحل تنفيذ الاتفاقيات وتبادل المعلومات بين المستثمرين والسلطات ستكون ضمانة حقيقية لنجاح هذه الشراكات.
وبالنسبة للجزائر، يمثّل النّجاح في تحويل الاتفاقيات إلى مشاريع فعلية فرصة لتعزيز حضورها كفاعل اقتصادي محوري في القارة. فقد وقّعت خلال المعرض عددًا من الاتفاقيات في مجالات النقل البحري والطاقة والمنتجات الفلاحية والصيدلانية، وهو ما يؤهّلها لتكون جسرًا بين إفريقيا وأوروبا إذا ما تمّ التنفيذ بفعالية وبسرعة.
آليات عملية للتّكامل الإفريقي
وعن الآليات والإجراءات العملية التي يجب التركيز عليها لضمان نجاح هذه الاتفاقيات وتعزيز التعاون، أوضح البروفيسور ساري أنّ نجاح الصفقات الموقعة في معرض التجارة البينية الإفريقية (إياتياف 2025) لا يتوقف على قيمتها المالية الضّخمة فحسب، بل يرتبط بقدرة دول القارة على ابتكار آليات عملية تضمن التنفيذ الفعلي لهذه الشراكات.
وفي هذا السياق، شدّد على ضرورة إنشاء بورصات إفريقية للسلع والخدمات، تكون بمثابة منصات شفافة لتنظيم المبادلات التجارية وضبط الأسعار وربط المنتجين بالمستهلكين مباشرة، بما يقلّص من المضاربة ويفتح المجال أمام استقرار الأسواق. والجزائر، بموقعها الاستراتيجي ووفرة منتجاتها الفلاحية والطاقوية، مؤهّلة لاحتضان بورصة إقليمية أو متوسطية للمواد الفلاحية والصناعية، بما يعزّز اندماجها الاقتصادي مع محيطها الإفريقي.
ومن بين الآليات العملية ذات الأهمية البالغة، إطلاق صندوق قاري لتمويل المشاريع المشتركة، يموّل عبر مساهمات الدول الإفريقية، والبنك الإفريقي للتصدير والاستيراد، والبنك الإفريقي للتنمية. هذا الصّندوق سيوفّر آلية تمويل مستدامة ومستقلة، توجه أساسًا إلى مشاريع البنية التحتية والطاقات المتجددة، ما يقلّل من الاعتماد على التمويلات الخارجية المشروطة التي غالبًا ما تحد من استقلالية القرار الإفريقي.
كما أنّ تطوير مناطق حرة اقتصادية ولوجستية مشتركة على الحدود بين الدول الإفريقية يمثّل أحد الحلول العملية لتسريع التبادل التجاري. فهذه المناطق أو المنصات اللوجستية ستتيح خفض تكاليف النقل والتخزين، وستخلق شبكات قيمة إقليمية متكاملة، خصوصًا على محاور إستراتيجية، حيث يمكن أن تتحول تلك المناطق إلى بوابات فعلية نحو عمق القارة.
دعائم أساسية للتّنمية الإفريقية
كما لا يمكن تجاهل – يضيف الخبير – أهمية إنشاء واعتماد آلية دفع قارية موحّدة، على غرار النظام الإفريقي لتسوية المدفوعات «بابس»، الذي يمثل بديلاً حقيقيًا لتجاوز إشكالية العملات الأجنبية في المبادلات الإفريقية. هذه الأداة المالية ستقلص تكاليف التحويلات البنكية وتسرّع المعاملات التجارية، بما يمنح دفعة قوية للاتفاقيات الموقعة.
إلى جانب ذلك، يبقى تفعيل الممرّات الاقتصادية الإفريقية ضرورة ملحة، إذ لا يمكن للتجارة أن تزدهر دون طرق برية وسكك حديدية وموانئ تربط بين الدول. ويعد مشروع الطريق العابر للصحراء مثالًا واضحًا، حيث من شأن استكماله وربطه بالموانئ الجزائرية أن يخفض تكاليف النقل بما لا يقل عن 30 بالمائة، فاتحًا المجال أمام حركة سلسة للسلع والمنتجات عبر العديد من دول القارة.
ومن أجل ضمان الثقة والشفافية، يتطلّب الأمر أيضًا تأسيس مراكز تحكيم تجارية إفريقية تكون مرجعًا لتسوية النزاعات بسرعة وفعالية، بعيدًا عن الإجراءات القضائية الطويلة والمعقّدة. هذه المراكز ستوفّر بيئة قانونية آمنة تشجع المستثمرين، وتزيد من جاذبية المشاريع المشتركة.
تسريع بناء السّوق الإفريقية الموحّدة
أمّا بشأن مساهمة هذه الآليات في تسريع بناء السوق الإفريقية الموحّدة، فأوضح نصر الدين ساري أنّ أول ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية «زليكاف» تمثّل الإطار المؤسسي الأهم لتحقيق هذا الهدف. غير أنّ تفعيلها العملي يظل مرهونًا بمدى قدرة الدول الإفريقية على تقليص الحواجز الجمركية وغير الجمركية، وتسهيل حركة الأشخاص والخدمات ورؤوس الأموال.
وتشير تقديرات البنك الإفريقي للتنمية - يضيف الخبير - إلى أن تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية يمكن أن يشكّل نقطة تحول حقيقية في مسار التكامل الاقتصادي، حيث من المنتظر أن يرفع حجم التجارة البينية الإفريقية بنسبة تفوق 52 بالمائة بحلول سنة 2030، مقابل أقل من 16 بالمائة حاليًا. وهي نسبة متواضعة إذا ما قورنت بالمعدلات المسجلة في التجارب التكاملية الأخرى عبر العالم، مثل الاتحاد الأوروبي الذي تجاوزت فيه التجارة الداخلية 60 بالمائة، أو القارة الآسيوية التي تفوق فيها 50 بالمائة.
في هذا السياق، يمكن القول إن اعتماد الآليات المطروحة، إضافة إلى تلك التي انبثقت عن «إياتياف 2025» – من التمويل عبر «أفريكسيم بنك»، إلى الإصلاحات الجمركية، إلى الرقمنة – تشكّل أدوات حقيقية لتسريع بناء السوق الموحدة. وإذا ما تمّ استغلال هذه الأدوات بفعالية، فإن إفريقيا قد تنتقل من كونها تمثل 3 بالمائة فقط من التجارة العالمية إلى فاعل اقتصادي يضاهي القوى الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية.
أما بالنسبة للجزائر، فإنّ رهان السوق الإفريقية الموحدة يتقاطع مع استراتيجيتها الوطنية لتنويع الاقتصاد وتقليص التبعية للمحروقات. فهي لا تكتفي بأن تكون طرفًا في هذه السوق، بل تطمح إلى أن تكون قاطرتها ومحركها الأساسي، بما ينسجم مع رؤيتها كجسر يربط إفريقيا بأوروبا والعالم.
وعليه، فإنّ معرض التجارة البينية الإفريقية 2025 لم يكن مجرد تظاهرة اقتصادية عابرة، بل محطة استراتيجية بالغة الأهمية في مسار التكامل القاري. غير أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بحجم الأرقام والاتفاقيات المبرمة فحسب، بل بمدى قدرة الدول الإفريقية على تحويل تلك الالتزامات الورقية إلى مشاريع ملموسة تُحدث فرقًا في حياة المواطن، وتوفر فرص عمل، وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية المستدامة.
والجزائر، التي ظفرت بحصة معتبرة من هذه الصفقات، تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لترسيخ موقعها كجسر اقتصادي محوري بين إفريقيا وأوروبا، عبر المتابعة الدقيقة للاتفاقيات، واعتماد آليات تمويل مبتكرة تُحفّز الاستثمارات، وتعميق التعاون مع شركائها الأفارقة بما يعزز الثقة والندية.
إنّ تحويل هذا المكسب إلى رافعة حقيقية يتطلّب رؤية بعيدة المدى وإرادة سياسية صلبة، قادرة على جعل هذه المحطة نقطة انطلاق نحو بناء سوق إفريقية موحدة وقوية، تملك مقوّمات المنافسة وتفرض حضورها في الاقتصاد العالمي.