يعيش المشهد الإفريقي في السنوات الأخيرة تحولات متسارعة، جعلت من الشراكات الاقتصادية ركيزة أساسية لإعادة رسم معالم التنمية القارية، ولقد برزت مبادرات عديد الدول الإفريقية، وعلى رأسها الجزائر، لعقد اتفاقيات شراكة شاملة تعكس الإرادة المشتركة في التحرّر من أعباء التبعية الاقتصادية والسياسية، التي خلفتها الكولونيالية المهترئة، وتجسّد مشروعا إفريقيا واعدا يقوم على التعاون والتكامل.
لم تعد اتفاقيات الشراكة في إفريقيا مجرّد وثائق دبلوماسية شكلية، بل تحوّلت إلى وسيلة عملية لتحقيق السيادة الاقتصادية وتوطيد التعاون جنوب-جنوب، فهي تفتح المجال أمام إنشاء سلاسل إنتاج قارية، وتسهّل حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وتمنح للشركات الإفريقية فرصة للتموقع في السوق العالمية بقدراتها الذاتية، كما تُسهم هذه الاتفاقيات في توسيع نطاق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، التي تعِد بأن تكون أحد أكبر التكتلات الاقتصادية في العالم، بطاقة سكانية تناهز المليار ونصف المليار نسمة.
إفريقيـــا يبنيهــــا الأفارقــــة
ضمن هذه الديناميكية، جاء توجّه الرّئيس عبد المجيد تبون ليضع النهضة الإفريقية الشاملة في صميم السياسة الخارجية الجزائرية، فالرئيس تبون طالما أكّد أنّ مستقبل إفريقيا لن يُصنع إلا بأيدي أبنائها، وأنّ القارة قادرة على أن تتحول من فضاء مُثقل بالديون والأزمات إلى قوة اقتصادية واعدة، شرط أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية، وتقطع مع منطق “الوصاية” الذي تفرضه القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
لقد عبّر الرّئيس تبون في أكثر من مناسبة عن رفضه الصريح لكل أشكال “الكولونيالية الجديدة”، سواء كانت في شكل هيمنة اقتصادية عبر الديون، أو تدخّلات سياسية وعسكرية تعيق القرار السيادي للدول، وفي مقابل ذلك، طرح مشروعًا قائمًا على توحيد الجهود الإفريقية، عبر تفعيل الاتفاقيات البينية في مجالات التجارة، الاستثمار، الطاقة، التكنولوجيا، والبنى التحتية.
الجزائر قاطرة التكامل القاري
موقع الجزائر الجغرافي كبوابة بين إفريقيا وأوروبا، وإمكاناتها الاقتصادية، وعمقها التاريخي في دعم حركات التحرّر، كلها عناصر تجعلها مؤهّلة لتكون قاطرة للتكامل الإفريقي، ومن هنا جاء احتضانها لمعرض التجارة البينية الإفريقية (إياتياف 2025)، ليكون أكثر من مجرّد تظاهرة اقتصادية، بل فضاء لترجمة سياسة الشراكة إلى مشاريع ملموسة، تُعزّز التكامل وتُمهّد لنهضة إفريقية شاملة.
إنّ عقد اتفاقيات الشراكة لا يهدف فقط إلى تطوير المبادلات التجارية، بل يتعداها ليصبح خيارا استراتيجيا للتحرّر من التبعية، عبر بناء اقتصاد إفريقي متماسك يخلق الثروة ويُؤمّن السيادة الغذائية والطاقوية، فالتحديات التي تواجه القارة - من أمن غذائي، وانتقال طاقوي، ورهانات التكنولوجيا الحديثة - لا يمكن التصدي لها إلّا عبر شراكات متينة بين الدول الإفريقية نفسها.
إنّ السياسة التي ينتهجها الرّئيس تبون تعبّر عن قناعة راسخة، بأنّ إفريقيا يجب أن تُبنى بسواعد إفريقية ولأجل إفريقيا، ومن هنا تأتي أهمية تكثيف اتفاقيات الشراكة كجسرٍ نحو مستقبل تسوده التنمية المستدامة والكرامة والسيادة. فالتكامل الإفريقي لم يعد ترفًا سياسيا، بل ضرورة وجودية لإنهاء عصر الكولونيالية الجديدة، وفتح صفحة جديدة من التاريخ القاري تُكتب بأيدي الأفارقة أنفسهم.