شكلت اللغة العربية، عبر تاريخها الطويل، وعاء للفكر الإنساني ومرآة للحضارة وذاكرة جماعية تختزن القيم والمعرفة والتجربة التاريخية للأمم.. واليوم، مع تسارع التحولات الرقمية وهيمنة التكنولوجيا على مختلف مناحي الحياة، تجد اللغة العربية نفسها أمام لحظة فارقة، تختبر فيها قدرتها على التكيف والبقاء كلغة علم وإبداع ومعرفة قادرة على التفاعل مع العصر.
تصنف اللغة العربية ضمن أقدم اللغات السامية، وتمتاز بثراء لغوي استثنائي سواء على مستوى المفردات أو التراكيب أو القدرة التعبيرية، وقد مكنها هذا الغنى من استيعاب الفلسفة والعلوم والآداب، كما مكّنها من التعبير عن أدق المشاعر الإنسانية وأكثر الأفكار تجريدا، وتعززت مكانتها بكونها لغة القرآن الكريم، ما منحها بعدا روحيا وحضاريا فريدا، وجعلها لغة حية عبر العصور.
وفي الجزائر على وجه الخصوص، تكتسب اللغة العربية دلالة أعمق، حيث تشكل ركيزة أساسية من ركائز الهوية الوطنية، وعنصرا موحدا بين أفراد المجتمع، وعلامة على الانتماء إلى تاريخ مشترك ودين واحد، فهي المعبر عن الذاكرة الجماعية، وجزء لا يتجزأ من معركة الحفاظ على الخصوصية الثقافية في عالم سريع التحول.
غير أن هذا المسار لم يكن خاليا من العوائق، حيث واجهت اللغة العربية في الجزائر تحديات تاريخية، لعل أبرزها آثار الاستعمار الفرنسي الذي سعى إلى تهميش العربية وإقصائها من التعليم والإدارة، وفرض لغة المستعمِر كأداة للهيمنة الثقافية، وقد خلف هذا الواقع ازدواجية لغوية ما تزال آثارها قائمة إلى اليوم، خاصة في المجالات العلمية والتقنية.
تحديات جديدة
مع دخول العالم عصر الثورة الرقمية، انتقلت هذه التحديات إلى مستوى أكثر تعقيدا، فقد فرضت العولمة الرقمية واقعا جديدا تتحكم فيه لغات بعينها، وعلى رأسها الإنجليزية، بوصفها لغة العلوم والتقنية والبرمجة.. هذا الوضع أسهم في إضعاف حضور العربية في الفضاء الرقمي، وخلق فجوة متزايدة بين فئات واسعة من الشباب واللغة العربية الفصحى، خاصة في المجالات التقنية والعلمية.
وزاد من حدة هذا التحدي الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي التي أفرزت أنماطا لغوية هجينة تمزج بين العامية واللغات الأجنبية، وأضعفت في كثير من الأحيان سلامة الاستعمال اللغوي، وبمرور الوقت، لم يعد الخطر يقتصر على تراجع العربية في المحتوى العلمي فقط، بل امتد إلى تآكل علاقتها بالأجيال الجديدة التي باتت ترى فيها لغة مدرسية أكثر منها لغة حياة وإبداع.
في هذا السياق، تبرز إشكالية المصطلحات العلمية والتقنية كواحدة من أعقد التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم، فالتطور المتسارع للعلوم يفرض باستمرار مفاهيم جديدة، لم تحظ دائما بتعريب موحد أو متفق عليه، ما يدفع الباحثين والممارسين إلى اعتماد المصطلحات الأجنبية، ويضعف عملية توطين المعرفة باللغة العربية.
وتتعمق هذه الإشكالية مع صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد في معظمها على قواعد بيانات ومحتوى لغوي أجنبي، الأمر الذي يجعل تمثيل اللغة العربية محدودا داخل هذه النظم، ونتيجة لذلك، تصبح العربية مستهلكة للتكنولوجيا أكثر من كونها مساهمة في إنتاجها، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبلها في عالم تحكمه الخوارزميات.
وأمام هذه التحديات المتراكمة، برزت في الجزائر محاولات جادة لتعزيز مكانة اللغة العربية وإعادة إدماجها في الفضاء العلمي والرقمي، فقد اضطلعت مؤسسات رسمية، مثل المجلس الأعلى للغة العربية والمجمع الجزائري للغة العربية، بدور محوري في وضع السياسات اللغوية، وتشجيع البحث العلمي، والعمل على توحيد المصطلحات وإثراء المعاجم، لا سيما الرقمية منها.
التعليم والرقمنة رهان المستقبل
وفي الموازاة، شهد قطاع التعليم العالي خطوات مهمة نحو إدماج العربية في التعليم الرقمي، من خلال إنتاج محتوى تعليمي إلكتروني، واعتماد منصات التعلم عن بعد، وتوظيف الوسائط التفاعلية، كما تم إطلاق برامج لتكوين الأساتذة في مجال الكفاءات الرقمية، بما يمكنهم من تدريس مختلف التخصصات بالعربية باستخدام أدوات حديثة تواكب متطلبات العصر.
ولا يقتصر هذا الجهد على المؤسسات التعليمية وحدها، إنما يمتد إلى المجال الإعلامي والثقافي، فتعزيز حضور العربية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ونشر المقالات والكتب الرقمية، وتطوير منصات تعليمية وثقافية، كلها عناصر أساسية لإعادة ربط اللغة العربية بالشباب وجعلها لغة قادرة على المنافسة والتأثير.
ومن جهة أخرى، يبرز التعاون العربي والإقليمي كعامل حاسم في دعم اللغة العربية في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فتبادل الخبرات، وتنسيق الجهود في مجال المصطلحات والبحث العلمي، والاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في الترجمة والتحليل اللغوي، يمكن أن يسهم في تعزيز مكانة العربية داخل الفضاء الرقمي العالمي.
ينبغي التذكير أن الجزائري بشير حليمي، المولود عام 1956، يعدّ أحد أبرز المبتكرين والمخترعين الجزائريين في مجال المعلوماتية، حيث يعود إليه الفضل في تطوير خوارزميات التعريب وتقنيات الكتابة باللغة العربية في الأنظمة الحاسوبية، وهي ابتكارات استفادت منها لاحقا شركات تكنولوجية عالمية كبرى، بينها مايكروسوفت في مراحل نشأتها.
اختبار للوعي والإرادة
في المحصلة، يتضح أن التحدي الذي تواجهه اللغة العربية اليوم هو اختبار حقيقي للوعي والإرادة، فالعصر الرقمي، رغم ما يحمله من تهديدات – يتيح فرصا غير مسبوقة لإعادة بعث العربية، شريطة تحويلها من لغة استهلاك إلى لغة إنتاج، ومن رمز للهوية، إلى أداة فاعلة في صناعة المعرفة.
وعليه، فإن مستقبل اللغة العربية في الجزائر يبقى رهين تبني إستراتيجية شاملة، تجمع بين الإصلاح التربوي، والدعم المؤسسي، والتأهيل الرقمي، وتشجيع البحث العلمي والإبداع التكنولوجي باللغة العربية، وإذا توفرت هذه الشروط، ستتمكن العربية من تجاوز التحديات، وتحقيق التوازن بين عمقها الحضاري ومتطلبات العصر الرقمي، لتواصل حضورها كلغة حية، فاعلة، وقادرة على صناعة المستقبل.





