رفض شعبـي للتطبيع وإجماع حقوقـي متزايـد ضـد احتــلال الصحـراء الغربيـة
مع تواصل الحرب على غزة، يشهد المغرب حركة مقاومة شعبية مناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بالتزامن مع اتساع التحركات الحقوقية والنقابية في أوروبا الداعمة لقضية الصحراء الغربية، وتأتي هذه التحركات في وقت حسّاس، عشية الذكرى الخامسة لتوقيع اتفاقية التطبيع المشؤومة مع الكيان الصهيوني، وسط جدل داخلي متواصل حول تداعيات هذا المسار الذي يوصف بأنه “خيانة كاملة الأركان”، بينما تتصاعد – في الأوساط السياسية والإعلامية الأوروبية – التحذيرات من سياسات المغرب بالصحراء الغربية، بما في ذلك اتهامات بمواصلة احتلال الإقليم عبر ما يصفه محللون بـ«حرب هجينة” تشمل الضغط السياسي والاقتصادي والتأثير على الهوية الثقافية للسكان المحليين..
وجاء إعلان “مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين” بالمغرب، عن تنظيم مسيرة شعبية في طنجة، السبت المقبل، ليمثل محطة جديدة في مسار مقاومة شعبية ممتدّة، ترفض التطبيع الصهيو-مخزني الذي تغلغل في مفاصل الدولة، يحدّدها رمزيا توقيت المسيرة التي توافق الذكرى الخامسة لاتفاقية التطبيع المشؤومة مع الكيان الصهيوني، وهو ما يحمل دلالة سياسية واضحة: الذاكرة الشعبية لم تُصب بالزهايمر السياسي، ولم تبتلع سردية “المصالح العليا” التي رُوّجت لتبرير اتفاق وُصف شعبيًا بـ«اتفاقية العار”.
المخزن على صفيح ساخـن
ولا شكّ أن الشعار المرفوع: “الشعب المغربي مع المقاومة وضد التطبيع دفاعًا عن الوطن ونصرة لفلسطين”، لا يكتفي بترديد موقف تضامني تقليدي مع القضية الفلسطينية، وإنما يعكس مستوى متقدمًا من الوعي السياسي لدى فئات واسعة من الشارع المغربي، ترى في التطبيع مسألة سيادية تمسّ جوهر القرار الوطني، فالموقف الشعبي، كما تعبّر عنه هذه الشعارات، ينطلق من قناعة مفادها أن العلاقة مع الكيان الصهيوني لا تُختزل في تبادل دبلوماسي أو تعاون تقني محدود، وإنما تشكل مدخلًا لاختراق متعدد الأبعاد يمس البنية السياسية والأمنية والثقافية للدولة.
في هذا السياق، يُنظر إلى الاختراق الصهيوني – في المخيال الشعبي – باعتباره مشروع نفوذ طويل المدى، يهدف إلى التأثير في خيارات السياسة الخارجية، وإعادة توجيه الأولويات الأمنية، وفرض أنماط ثقافية وقيمية مغايرة، بما يخدم أجندات تتعارض مع الإرادة الشعبية ومع المواقف التاريخية للمجتمع المغربي، ومن ثمّ، يتحوّل رفض التطبيع إلى فعل دفاعي عن السيادة الوطنية، وعن استقلال القرار السياسي، أكثر منه مجرد تعبير عاطفي عن التضامن مع فلسطين، في ربط واضح بين نصرة القضية الفلسطينية وحماية الوطن من مسارات يعتبرها المحتجون تهديدًا مباشرًا لخياراته الاستراتيجية وهويته السياسية.
ولا تقتصر التعبئة ضد التطبيع المشين، على مدينة طنجة أو على محطة احتجاجية معزولة، فهي تتخذ طابعًا وطنيًا متصاعدًا يعكس اتساع رقعة الرفض الشعبي لمسار “الخيانة العظمى” في حق الشعب المغربي والشعوب العربية الإسلامية قاطبة، فقد أعلنت “الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع” عن التحضير لاحتجاجات واسعة ومتزامنة، في عدد من المدن المغربية يوم 22 ديسمبر، من أجل تحويل الغضب الشعبي إلى فعل ميداني منظم، قادر على إعادة فرض القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع كأولوية في النقاش العام، بعد سنوات من محاولات التهميش والتطبيع التدريجي للأمر الواقع.
ويأتي هذا التحرّك في سياق تصعيدي محكم، لا يكتفي بالتظاهر في الشارع، وإنما يسعى إلى خوض معركة الرأي العام عبر تنظيم ندوة صحفية موازية، ترمي إلى فضح ما تعتبره الجبهة “مخاطر التطبيع على السيادة الوطنية والقيم الإنسانية”، وتهدف هذه الندوة إلى تقديم قراءة نقدية لحصيلة خمس سنوات من العلاقات مع الكيان الصهيوني، من خلال تفكيك آثارها السياسية والأمنية والثقافية، وإبراز الكلفة التي يتحملها المجتمع والدولة نتيجة هذا الخيار، سواء على مستوى القرار السيادي أو على مستوى الانخراط الأخلاقي في قضايا المنطقة.
وفي هذا الإطار، لا يبدو الشارع المغربي محصورًا في موقع ردّ الفعل الآني أو التعبير العاطفي المرتبط بتطورات خارجية، وإنما ينتقل إلى موقع الاتهام المباشر، أبعد من أن يكون قرارا ظرفيا، فالمحتجون يضعون المخزن أمام مساءلة سياسية وأخلاقية، معتبرين أن التطبيع يمثل تموضعًا واعيًا في ضفة تتناقض مع الإرادة الشعبية ومع الثوابت التاريخية للمجتمع المغربي، ومع ما يراه الشارع التزامًا أخلاقيًا تجاه قضايا التحرر والعدالة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
الصحــراء الغربيــة.. إجمــاع حقوقــي يتســـع
بالتوازي مع هذا الغضب الشعبي من “الخيانة المقيتة”، تتعزّز في أوروبا أصوات نقابية وحقوقية تضع قضية الصحراء الغربية في إطارها الحقيقي: قضية تصفية استعمار لا نزاعًا إداريًا. الاتحاد العام للعمال الإسبان (فرع نافارا) كان واضحًا حدّ الإحراج، حين اعتبر أن ما يجري في الصحراء الغربية “جريمة ضد الإنسانية” وفق القانون الدولي، وأن الدفاع عنها هو دفاع عن الكرامة وحقوق الإنسان، لا عن شعارات سياسية جوفاء.هذا الموقف النقابي، المدعوم برمزية كشف الستار عن نصب “50 عامًا من المنفى”، يكشف عن تحوّل نوعي ومتزايد في مقاربة فاعلين أوروبيين لقضية الصحراء الغربية، فاختيار “الذاكرة الجماعية” و«المنفى” كعنوان لهذا العمل الرمزي، يعكس إدراكًا متناميًا لطول أمد المعاناة الصحراوية، وللطابع البنيوي للظلم الواقع على شعب حُرم، لعقود، من حقه في العودة وتقرير مصيره بحرية.
ويشير هذا التطور إلى تراجع فعالية الخطاب الذي سعى، على مدى سنوات، إلى تمييع القضية أو اختزالها في خلاف دبلوماسي أو نزاع إقليمي قابل للتدبير السياسي، بمعزل عن القانون الدولي، فداخل الأوساط النقابية والحقوقية الأوروبية، لم يعد مقبولًا التعامل مع الصحراء الغربية كملف تقني أو هامشي، فهي قضية تصفية استعمار غير مكتملة، وانتهاكًا ممنهجًا ومستمرا لحقوق شعب كامل، تشمل الحق في تقرير المصير، والسيادة على الأرض والثروات، والحماية من السياسات القمعية والتمييزية.
ويعكس هذا الموقف اتساع الفجوة بين الخطاب الرسمي لبعض الحكومات الأوروبية التي توازن مواقفها وفق اعتبارات سياسية واقتصادية ضيقة، وبين مواقف المجتمع المدني والنقابات التي تعيد الاعتبار لمركزية حقوق الإنسان والشرعية الدولية، وفي هذا السياق، تبرز الصحراء الغربية مجددًا كاختبار حقيقي لصدقية الالتزام الأوروبي بالمبادئ التي يرفعها، وفي مقدمتها احترام حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، باعتباره حقًا غير قابل للتصرف أو المساومة.
الحــرب الهجينة..
أما التحذيرات الصادرة عن محللين إسبان من استمرار المغرب في “حربه الهجينة” بالصحراء الغربية، تضاعف من أوجاع المخزن، وتفضح سوءاته، فالاحتلال تحوّل إلى منظومة متكاملة تشمل السيطرة على الموارد، التلاعب بالمعلومات، الضغط السياسي والاقتصادي، وحتى توظيف الهجرة غير النظامية كورقة ابتزاز.
ويشير المحللون الإسبان إلى أن الاحتلال المغربي يقوم على شبكة مترابطة من الآليات، تبدأ بالسيطرة الممنهجة على الموارد الطبيعية للإقليم، واستغلالها اقتصاديًا دون أي سند قانوني، وتمر عبر التلاعب بالمعلومات وصناعة خطاب مضلل يستهدف الرأي العام الداخلي والخارجي، ولا تنتهي عند حدود الضغط السياسي والاقتصادي على الأطراف الإقليمية والدولية، وفي هذا السياق، يبرز توظيف الهجرة غير النظامية كأداة ابتزاز سياسي، خاصة في العلاقة مع إسبانيا والاتحاد الأوروبي، باعتباره أحد أكثر أوجه هذه الحرب الهجينة فجاجة، حيث تتحوّل معاناة البشر إلى ورقة تفاوض.
ويكشف المحللون أن المخزن لا يسعى إلى تسوية سياسية قائمة على الشرعية الدولية، بقدر ما يعمل على إدارة الاحتلال كحالة دائمة، عبر وسائل غير تقليدية تُجنب كلفة المواجهة المباشرة، وتكرّس واقعًا استعماريًا أكثر تعقيدًا وخطورة، وبهذا المعنى، فإن “الحرب الهجينة” ليست سوى اعتراف غير معلن بفشل الرهان العسكري والدبلوماسي، ومحاولة تعويضه بسياسات التفاف، تزيد من عزلة المخزن أخلاقيًا، وتضعه في مواجهة متزايدة مع القانون الدولي ومع قراءات نقدية لم تعد حبيسة الهامش الأكاديمي أو الإعلامي.
الأخطر في هذا السياق، ما كُشف عن السماح بتدخل مغربي مباشر في محتوى التعليم داخل مدارس تقع بالمناطق الصحراوية المحتلة، تحت إشراف وزارة التعليم الإسبانية نفسها، وهنا، ينتقل الاحتلال من السيطرة على الأرض إلى محاولة إعادة هندسة الوعي والهوية، في خطوة لا يمكن توصيفها إلا كامتداد للاستعمار الثقافي، وخرق فاضح للحقوق الثقافية للشعب الصحراوي.
ممارســة إعلاميــة تضليلية..
أما التعتيم الإعلامي الذي حذّرت منه منصات حقوقية وإعلامية إسبانية، فلا يمكن اعتباره تفصيلًا عابرًا، فهو يندرج في صلب منطق “الحرب الهجينة” التي تُدار في الصحراء الغربية بأدوات ناعمة لا تقل خطورة عن القوة العسكرية، فالتغييب المتعمد للقضية عن الأجندة الإعلامية، أو اختزالها في أخبار هامشية ومبتورة السياق، يهدف إلى إنهاك الذاكرة الجماعية وصناعة لامبالاة عامة تسمح بترسيخ الأمر الواقع دون تكلفة سياسية أو أخلاقية، فالمخزن يريد للقضية الصحراوية أن تتحوّل تدريجيًا إلى “ملف منسي” أو مجرد نقاش تقني ثانوي، يُستدعى عند الحاجة ثم يُعاد دفنه تحت ركام أولويات مصطنعة، بينما يتواصل على الأرض واقع أكثر قسوة، يتجلى في انتهاكات يومية لحقوق الإنسان، ومصادرة للثروات، وقمع للأصوات المطالبة بالحق في تقرير المصير، ويؤدي هذا التعتيم دورًا وظيفيًا في حماية سردية الاحتلال، عبر منع تشكّل رأي عام ضاغط، سواء داخل إسبانيا أو على المستوى الأوروبي الأوسع.ويحذّر المدافعون عن حقوق الإنسان من أن الإعلام، حين يتحوّل من أداة مساءلة إلى أداة صمت أو تشويش، يصبح شريكًا غير مباشر في إدامة الانتهاكات، فإقصاء الضحايا من الفضاء الإعلامي، وتغييب أصوات الصحراويين، لا يفضي إلى تشويه الحقيقة فقط، لأنه يسهم إسهاما مباشرا في تطبيع الاحتلال ذاته، باعتباره وضعًا مستقرًا لا يستدعي المساءلة، وبهذا المعنى، يغدو التعتيم الإعلامي أحد أكثر أوجه الحرب الهجينة فعالية، لأنه يراهن على النسيان كأداة سياسية، في وقت تتراكم فيه على الأرض معاناة صامتة.
الصحــراء الغربيـــة.. آخـر مستعمـرة
وخلال فعاليات اليوم العالمي لمناهضة الاحتلال في باريس، استعاد المتضامنون توصيف الصحراء الغربية بوصفها “آخر مستعمرة في إفريقيا”.. مسيرات، شعارات، ومداخلات حقوقية أعادت وضع القضية في صلب معركة تصفية الاستعمار، مع تحميل الأمم المتحدة مسؤولية تاريخية وأخلاقية عن تعطيل تنفيذ قرارها 1514 المتعلق بحق الشعوب في الاستقلال.
الرسالة القادمة من باريس كانت مباشرة وغير قابلة للتأويل: خمسون عامًا من الاحتلال ليست “تعقيدًا سياسيًا”، بل خرقًا سافرًا للقانون الدولي، واستمرارًا لمعاناة شعب يُحرم من سيادته على أرضه وثرواته.
خـــلاصـــة المشهــد..
إن ما يجري في المغرب، وفي الفضاءين الأوروبي والدولي، يؤكد أن القضايا العادلة لا تموت بالتقادم، مهما طال أمد الاحتلال أو اشتدّ التواطؤ.. فلسطين والصحراء الغربية لا تمثلان ملفين منفصلين، فهما اختبار واحد لصدق الخطاب الحقوقي، ولمدى احترام إرادة الشعوب في مواجهة أنظمة تراهن على النسيان، يواصل الشارع والضمير العالمي تذكيرها بحقيقة مزعجة: الاحتلال، مهما غيّر أقنعته، يظلّ احتلالًا. والتطبيع، مهما زُيّن لغويًا وبلاغيا، يبقى خيانة لحقوق الإنسان وللكرامة الجماعية.


