تعزيـز المسـار السيادي للدولة الجزائريـة في التعامل مع الماضـي الاستعماري
يعقد المجلس الشعبي الوطني، اليوم، جلسة علنية بالغة الأهمية، تخصص لمناقشة مقترحين تشريعيين تقدّم بهما المجلس، يتعلق الأول بتجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر، فيما يخص الثاني تعديل وتتميم القانون المتعلق بالجنسية الجزائرية. وتأتي هذه الجلسة في سياق سياسي وتاريخي خاص، يعكس عودة قوية لملف الذاكرة الوطنية إلى صدارة الاهتمام البرلماني، وتأكيدا على ارتباط التشريع بالسيادة والهوية الوطنية.
في سابقة تاريخية في المسار البرلماني الجزائري، يناقش نواب الغرفة الأولى مشروع قانون يهدف إلى تجريم الاستعمار الفرنسي، وهو مطلب طالما ظل حاضرا في الخطاب السياسي والحقوقي، غير أنه لم يبلغ في السابق مرحلة المناقشة التشريعية الرسمية داخل البرلمان.
ومساء الأربعاء، ترأس رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، اجتماعا تنسيقيا مع رؤساء المجموعات البرلمانية، خصص لمتابعة الترتيبات المتعلقة ببرمجة مقترح قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر ومقترح القانون المعدل والمتمم للقانون المتعلق بالجنسية الجزائرية، حسب ما أفاد به بيان للمجلس.
وخلال هذا الاجتماع “تم استعراض ومناقشة مختلف الجوانب التنظيمية والتشريعية المرتبطة ببرمجة النصين، بما يضمن معالجتهما في إطار من التنسيق والتشاور بين مختلف المجموعات البرلمانية وبما ينسجم مع الأهمية الوطنية والتاريخية للنصين اللذين بادر بهما نواب المجلس”، مثلما أوضحه ذات المصدر.
وبالمناسبة، أكد بوغالي على ضرورة “تكثيف التنسيق والعمل المشترك بين الهيئات البرلمانية، قصد إنجاح المسار التشريعي”، كما أثنى على دور رؤساء المجموعات البرلمانية و«حرصهم على ترقية صورة المؤسسة التشريعية واهتمامهم بالقضايا السيادية ذات البعد الوطني والتاريخي”.
محطة مفصلية
وينظر إلى هذه الخطوة باعتبارها محطة مفصلية في مسار التعاطي المؤسساتي مع الجرائم الاستعمارية، ورسالة سياسية وقانونية واضحة تعكس تمسك الجزائر بحقها في الدفاع عن ذاكرتها وتاريخها.
وقبل أيام احتضنت الجزائر، أشغال المؤتمر الإفريقي حول تجريم الاستعمار، والذي جاء تنفيذا لمبادرة لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون التي صادقت عليها القمة السابقة للاتحاد الإفريقي، والتي أكدت التوجه نحو إقرار العدالة التاريخية عبر جبر الضرر.
ما يجعل من المسار التشريعي الذي بدأه البرلمان الجزائري، ذا بعد قاري، وأيضا ذا موقف ريادي في تنفيذ مساعي الشعوب الإفريقية، الرامية إلى إحقاق العدالة ودفع الحوكمة الدولية للاعتراف بجرائم الاستعمار والتعويض عما اقترفته الدول الاستعمارية.
وبشأن المجريات التنظيمية، لجلسة اليوم، حول مشروع قانون تجريم الاستعمار، فقد سبقت بخطوة لافتة تمثلت في اجتماع رؤساء الكتل البرلمانية، الذين قرروا بالإجماع، تفويض رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، لتقديم مشروع قانون تجريم الاستعمار باسم جميع الكتل السياسية الممثلة في المجلس.
ويعكس هذا القرار حرصا واضحا على توحيد الموقف البرلماني حول القضايا الكبرى، وتغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبارات سياسية أو حزبية.
وفي بيان مشترك، أكد رؤساء الكتل أن تفويض رئيس المجلس لتقديم المشروع يأتي انطلاقًا من قناعة جماعية بأن تجريم الاستعمار يمثل مطلبًا وطنيًا جامعا يسمو فوق الخلافات السياسية، ويجسد وحدة الصف البرلماني حول الثوابت الوطنية.
كما شدد البيان على أن هذه المبادرة تعكس الإرادة الصادقة لنواب العهدة التشريعية التاسعة في حفظ الذاكرة الوطنية والدفاع عن تاريخ الجزائر ونضالها التحرري بكل حزم ووضوح.
واعتبر رؤساء الكتل أن تقديم مشروع القانون يشكل محطة تاريخية مفصلية وعملا برلمانيا مشهودا، يحمل في طياته عربون وفاء وتقدير للشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء لاستقلال الجزائر.
وأكدوا أن التاريخ سيسجل لنواب العهدة التاسعة فضل المبادرة بطرح هذا النص ومناقشته، في خطوة تعزز المسار السيادي للدولة الجزائرية في التعامل مع ماضيها الاستعماري.
ومن زاوية تحليلية، يرى متابعون للشأن البرلماني أن طرح مشروع قانون تجريم الاستعمار في هذا التوقيت يعكس نضجا في المقاربة المؤسساتية لملف الذاكرة، من خلال نقله من مستوى الخطاب السياسي إلى الإطار القانوني المنظم، بما يسمح بتأطير الموقف الجزائري رسميا، داخليا وخارجيا. كما يعد المشروع أداة ضغط معنوية وقانونية في سياق العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية، القائمة على مبدأ الندية والاحترام المتبادل.
وفي السياق ذاته، دعا رؤساء الكتل النواب إلى الانخراط الفعّال والمسؤول في مناقشة المشروع، بما يليق برمزيته وأبعاده الوطنية والتاريخية، خدمةً لمصلحة الوطن، وحفاظًا على كرامة الشعب الجزائري وذاكرته التاريخية، بعيدًا عن أي حسابات ظرفية أو ضيقة.
وبالتوازي مع هذا الملف ذي الرمزية العالية، يناقش المجلس الشعبي الوطني أيضا مشروع قانون يعدل ويتمم القانون المتعلق بالجنسية الجزائرية. ويهدف هذا النص إلى تحديد الحالات الاستثنائية لفقدان الجنسية أو التجريد منها، مع توضيح أن الجرائم المرتبطة بالخيانة العظمى وأمن الدولة تندرج ضمن هذه الحالات. ويأتي هذا التعديل في إطار مسعى تشريعي لتعزيز حماية الدولة ومؤسساتها، وربط الحقوق بالواجبات، في ظل التحديات الأمنية والسياسية الراهنة.
ويرى مختصون أن الجمع بين مناقشة قانون تجريم الاستعمار وتعديل قانون الجنسية في جلسة واحدة ليس مجرد تزامن إجرائي، بل يعكس رؤية تشريعية متكاملة تقوم على تحصين الذاكرة الوطنية من جهة، وتعزيز السيادة القانونية للدولة من جهة أخرى. وهي مقاربة تؤكد أن التشريع ليس أداة تقنية فحسب، بل رافعة سياسية وقيمية تعبر عن خيارات الأمة وثوابتها.
وبذلك، تبدو جلسة اليوم محطة بارزة في عمل البرلمان خلال العهدة التشريعية التاسعة، لما تحمله من دلالات سياسية وتاريخية وقانونية، من شأنها أن ترسم معالم مرحلة جديدة في التعاطي مع قضايا الذاكرة والسيادة، وتؤكد دور المؤسسة التشريعية في الدفاع عن الثوابت الوطنية وصون كرامة الشعب الجزائري.




