المـادة الأولـيـة لـتـشـيـيـد الـثـكنـات استـخــلصت من المـبــاني الأثريـة
الكولونـيـالـيـون أعـمـلـوا النــهـب والــسـلب والـتـخـريـب بـالمـواقـع الـتاريــخــيـة
حاول الاستعمار الفرنسي طمس الهوية الوطنية للشعب الجزائري بكل مكوناتها مستخدما في ذلك كل الطرق والأساليب، ولا نبالغ إن قلنا إن من أقذرها التلاعب بالمادة التاريخية والأثرية، من خلال تغيير أو حجب وحتى التحطيم الممنهج وإتلاف ما تم العثور عليه. فقد عمل صاحب الحملات الأولى للجيش الفرنسي على تجنيد مختصين تلخصت مهمتهم في التنقيب والبحث الأثري دون مراعاة لخصوصية وحساسية هذا العمل، وقد رفع هؤلاء تقارير للقيادة عن كل ماله علاقة بتاريخ الجزائر للاستفادة منه كمبررات وحجج لذلك الغزو الوحشي، وكذلك استخدمت هذه المباني كمورد للمادة الأولية في تشييد مباني الجيش.
وسطيف كباقي المدن الجزائرية لم تسلم من هذا التشويه والاستغلال لتاريخها ومعالمها، باعتبار أن كل منطقة يتم غزوها تدار من قبل الإدارة العسكرية، وقد لعبت مصالح الهندسة العسكرية بالجيش الفرنسي دورا كبيرا في عملية تهيئة المرافق للقوات العسكرية، التي تتموقع في قلب المدينة. إذ تشير بعض المصادر أن العديد من التقارير العسكرية نبهت للتخريب والنهب الذي يطال المواقع الأثرية، وقد شملت التقارير بشكل خاص المواقع التي ترجع للفترة الرومانية لما لها من أهمية بالنسبة للمستعمر كحجة تنطلق من فكرة أن فرنسا وغزوها للجزائر امتداد للوجود الروماني بالمنطقة، ومدى تأثير هذا الطرح والمغالطة على المادة الأثرية الأخرى، خاصة ما يرجع للفترة الإسلامية. فكيف استغلت السلطات الاستعمارية المعالم الأثرية لمدينة سطيف، خاصة القلعة البيزنطية؟ وما تأثير ذلك الاستغلال على البحث التاريخي اليوم؟
سـطــيــف غــداة الــغــزو الــفــرنــســـي..
قبل الإجابة عن تساؤلنا وجب علينا التعرف على سطيف قبل الاستعمار الفرنسي، حيث عرف قسم كبير من سطيف في العهد العثماني بوطن عامر، الذي كان يمتد على أراض شاسعة. في أواخر العهد العثماني كان يحكم قبيلة عامر قايد يعينه باي قسنطينة، ويشرف هذا القايد على سوق يعقد مرة في الأسبوع، يكلف خلاله القايد بجباية الضرائب على السلع المباعة. يشير فيرو (FERAUD) أنه في الزاوية الشمالية الغربية من القلعة البيزنطية المستطيلة المحصنة بعشرة أبراج كانت ترتفع بناية مدعمة بأعمدة أثرية استخدمت هذه البناية لتخزين حبوب ضريبة العشور في العهد العثماني.
سنة 1725 زار الرحالة الإنجليزي “الدكتور شاو” منطقة سطيف، وذكر أن قبيلة عامر كانت تقييم بواد بوسلام، وقد قاده فضوله العلمي لزيارة المدينة المليئة بالآثار الرومانية، فوجدها مهجورة من السكان إلا بعض الأسر التي شكلت من الأطلال الرومانية بيوتا لها.
بعد حصار قسنطينة وسقوطها في يد الاحتلال سنة 1837، زحف الجيش الفرنسي باتجاه سطيف عن طريق ميلة، وتذكر التقارير العسكرية أنه بنهاية سنة 1838 وبالتحديد في شهر نوفمبر، قرر الماريشال فالي le Maréchal VALEE، انطلاق الحملة من ميلة إلى سطيف وتم تعيين الجنرال قالبوا General Galbois قائدا للحملة.
أشارت التقارير إلى أنه بعد احتلال جميلة في ديسمبر 1838، وبقدوم الشتاء واشتداد هجمات القبائل المحلية وسكان المنطقة، تم إيقاف زحف الجيش نحو سطيف حتى فصل الربيع، حيث دخل جيش الاحتلال سطيف وأقام مخيمه في 30 ماي 1839. تقارير الجيش وفي وصفها للمكان قالت أنها لم تجد سوى أنقاض القلعة البيزنطية والمعروفة عند العرب ـ حسب وصفهم ـ بـ«القصبة.”
القلعة البيزنطية بسطيف..
يعود تاريخها إلى النصف الأول من القرن السادس الميلادي بالتحديد سنة 539 م، تقع هذه القلعة بالشمال الغربي لمدينة سطيف العتيقة فوق جزء من حي المعبد الروماني، سورها الحصين تم بناؤه من الحجارة المسترجعة من أغلب المباني الرومانية الضخمة، على غرار المعبد ومدرجات المسرح الروماني والسيرك. وقد تم تصنيف سور القلعة البيزنطية ضمن المنطقة الأثرية لسطيف بتاريخ 19 أكتوبر 1982، حسب الجريدة الرسمية رقم 48 الصادرة في 03 نوفمبر 1982.
يقع تسيير سور القلعة البيزنطية اليوم على عاتق الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، فرع مواقع سطيف الأثرية، التابع لوزارة الثقافة والفنون. ولأهمية هذا المعلم الذي يعتبر مادة هامة للباحثين في مختلف التخصصات) كالآثار، التهيئة الحضرية، التاريخ، الهندسة المعمارية، السياحة..(فقد خضع لأشغال ترميم استعجالية في 2012 لتقوية المعلم وضمان استمراريته). والمعلم اليوم مفتوح أمام الزوار من مختلف الفئات من داخل وخارج الوطن.
بداية استغلال القلعة البيزنطية عسكريا:
بالنظر للأهمية الاستراتيجية لموقع القلعة البيزنطية وصمودها وتحصيناتها، كان استغلال الجيش لها كنواة لتواجده العسكري بالمنطقة، وكما سبق الإشارة إليه فإن وحدات الجيش أقامت مخيما لها بهذا الموقع بتاريخ 30 ماي 1839 لمدة 6 أسابيع، إذ اعتبر الماريشال فالي Maréchal VALEE في حملته من ميلة إلى سطيف استخدام الموقع ضرورة حتمية تتطلب جملة من الأشغال الاستعجالية لضمان مكوث 300 جندي من المشاة، خلال فصل الشتاء، بكامل عدتهم وعتادهم ضمن الجزء المحفوظ من سور القلعة.
بعد تجهيز الموقع وفق ما أملاه فالي، تمكن المخيم من إيواء من 300 إلى 500 جندي وحمايتهم من برودة الطقس والهجمات المتكررة والقوية للقبائل المحلية، ومع تعاظم أهميته وتقوية تحصيناته أصبح مركزا لشن الحملات العسكرية الاستعمارية على المناطق المجاورة كحملة أبواب الحديد التي طالت منطقة برج بوعريريج وما جاورها.
وصل عدد الجنود بموقع القلعة البيزنطية بسطيف إلى أكثر من 2400 جندي بمختلف الأسلحة، وهذا بحلول شهر أكتوبر 1840. ليتم اعتماد الدائرة العسكرية لسطيف التي أوكلت مهمة قيادتها للجنرال غيس فيلار -GuesViller. في ذات السنة قام المستعمر بالاستفادة من المبنى الذي خصص لجمع العشور خلال الحكم العثماني، حيث تم تغطيته وتهيئته ليضم طابقه الأرضي مخزنا للسوائل والمحاليل، أما طابقه العلوي فحول إلى مستشفى عسكري.
عرفت سنة 1841 الشروع في تشييد الحصن العسكري على أنقاض القلعة البيزنطية، بعد أن تم تخصيص غلاف مالي هام لتقوية التحصينات وإنشاء وتوسيع الثكنات، وضم الحصن:
جناحا للضباط مع جميع ملحقاته - ثكنات تضم 2200 جندي - اسطبلات بسعة 300 حصان - مستشفى عسكريا بسعة 830 سرير - ملحقات معيشية) 04 أفران، مذبح، حضيرة للأبقار وأخرى للأعلاف، مخزن للبارود)..
ثــكــنــة نــابــلــيــون بــونـــابــــرت..
مع تقدم الأشغال بالتحصين العسكري للمدينة والثكنات الجديدة، وتزايد العمالة المدنية، برز الاهتمام بهذا المورد البشري المدني المتنامي والذي يحتاج للاستقرار، حيث عرفت سنة 1843 وضع أول مخطط حضري في سطيف، أين تم استبدال المنازل الهشة والخيام بمبان تخضع لمخطط حضري مدروس.
بصدور الأمر الملكي 1847 والذي يتضمن إنشاء المدن الأوروبية، أخذت مدينة سطيف النواة بشارعين:
الشارع العسكري في الشمال محاطا بالمنطقة العسكرية، والشارع المدني في الجنوب. مثلت الثكنة العسكرية المقامة على أنقاض القلعة البيزنطية نواة الحي العسكري والتي أطلق عليها الثكنة العسكرية نابليون بونابرت، وتعد أقدم المراكز الاستعمارية في ولاية سطيف، أضيفت لها تحصينات كثيرة، تتربع على مساحة تجاوزت 14 هكتارا. ثم تم ترقيتها لتصبح ثكنة جهوية للتجنيد والتدريب والتخطيط للعمليات العسكرية التمشيطية المفاجئة ومقاومة كل التمردات والانتفاضات والثورات الشعبية منذ بداية الاحتلال.
وازدادت أهميتها وتصاعد دورها العسكري فباتت مركزا قياديا للمنطقة الغربية لقسنطينة (على رأسها قائد برتبة جنرال) الممتدة من شلغوم العيد إلى أزفون واعتبرت ثكنة مركزية موجود بها قيادة أركان الحرب، وهي ثكنة متعددة الخدمات وبها الفروع الآتية:
المديرية العامة للاحتياط - مركز اعتقال دائم - مركز فرز المساجين - قيادة التموين - قيادة الذخيرة الحربية - قيادة المكتب الثاني - قيادة المكتب الخامس - قيادة الصحة العسكرية - مستشفى عسكري - نادي الضباط - سكنات الضباط وعائلاتهم - ورشة للخياطة العسكرية - قيادة لاصاص - قيادة الفرع الإداري الحضري - مراكز المدفعية - مراكز التعذيب والتقتيل الجماعي.
حـرب الــتــحـريــر الكــبرى..
أصبحت القلعة العسكرية الضخمة لمدينة سطيف مقرا لقيادة الضباط السامين طيلة ثورة التحرير الكبرى، لتخطيط العمليات العسكرية وإدارتها ضد الشعب الجزائري. وأوكلت لها مهمة التجنيد والتدريب والاستنطاق والتعذيب والتنكيل والقتل الجماعي على يد عساكر متخرجين من اللفيف الأجنبي والمظليين، علاوة على اللفيف 11 من فرقة الرماة العائد من قاعدة بادن بادن BADEN-BADEN بألمانيا الغربية مقر قيادة الحلف الأطلسي.
وقد تم إنشاء مديرية العمليات الاحتياطية D.O.B المختصة في متابعة تطور الثورة والأساليب العسكرية التي يمكن اتباعها لوقف زحف الثورة سنة 1956 داخل ثكنة نابوليون بونابرت، ولها فروع شتى في مختلف مناطق الولاية، يديرها مختصون في شؤون الحرب وعلم النفس والتعذيب والاستنطاق. ويوجد بهذه المديرية أقسام خاصة بمختلف الفئات الثورية والمناطق الريفية منها: قسم خاص بجيش التحرير، وقسم خاص بالفدائيين وقسم خاص بالأرياف والمشاتي.
وباتساع رقعة الثورة التحريرية جغرافيا لا سيما بعد 1956، أصبحت ثكنة نابليون بونابرت تتطلب توسيعا ودعما أكثر، ما دفع السلطات العسكرية في المنطقة إلى إنشاء مراكز عسكرية أمامية ترتبط بها من كل جانب لحمايتها من هجمات المجاهدين ولتضييق الخناق على المقاومين من مسبلين وفدائيين، ومن أهم هذه المراكز نذكر:
- مركز الحرملية (بلدية مزلوق): مختص في الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية.
- مركز عين السفيهة (بلدية سطيف): مختص في الاعتقال والفرز وغسل المخ.
- مركز الزنادية: وهو عبارة عن مزرعة للمعمر روجي خصص للتعذيب والتصفية الجسدية.
- مركز أوريسيا: مختص في الاتصال والمسح والتدخل السريع والتعذيب والاستنطاق.
- معتقل قصر الأبطال: مختص في التعذيب والتطويع للمعتقلين وغسيل المخ.
لقد كان المعتقلون الذين يساقون إلى ثكنة نابليون بونابرت يحشرون في زنزانات تعرف باسم “الاثني عشر زنزانة “ويتم فيها كذلك فرز المعتقلين سواء بالقتل أو التسريح أو السجن أو الاعتقال إلى مراكز أخرى.
وقد فرضت سلطات الاستعمار حصارا جهنميا على مدينة سطيف وذلك لمرتين، الأول سنة 1957 دام 15 يوما والثاني سنة 1958 ودام 8 أيام بقيادة العقيد مارتا.
خــتامــا..
يشير الماريشال فالي le Marechal VALEE في تقريره عن حملته من قسنطينة إلى سطيف أن هذه البلدان الجديدة مجال واسع مفتوح للعلماء: “ فالجيولوجي يستطيع الآن أن يعود إلى التاريخ الطبيعي لإفريقيا، والفنان وعالم الآثار بوسعهم أن يطوفوا هذه المدن، يرسمون النصب الرومانية التي لا تزال قائمة، ويفكون رموز نقوش النذر الخاصة التي تغطيها، وبإمكانهم الاستفادة من هذه المصادر فيزرعون معالم جديدة لتوجيه المؤرخ!
إنّ الاعتقاد بأن ما تم تشييده من طرف المستعمر من مبان ومنشآت هو مكسب خالص للبنية الحضرية والعمرانية للبلاد، هو اعتقاد مجحف ومنقوص ينظر لهذه المنشآت من زاوية ضيقة لأنها شيدت في الحقيقة فوق جزء هام من تاريخنا عمدت سلطات الاحتلال لطمسه أو تشويهه وتغييره وفقا لرؤية استعمارية. فالتنقيب الأثري عبارة عن حوار بين الباحث والحقيقة المادية، والوسائل والأهداف تتغير حسب التوجه. فقد أشار تقرير حفريات سطيف في الفترة بين 1977 و1984 أن مصادر الكتابة السابقة لم تعط معلومات حول مدينة سطيف وسكانها المسلمين الأوائل، والأرجح أن سكانها – المسلمين – التجؤوا إلى القلعة المحصنة ثم أدى الانفجار السكاني إلى التوسع في الأراضي المجاورة للقلعة البيزنطية، وهذه الحفريات عثرت على دلائل مادية مثل المطامير بالإضافة لاكتشاف 11 بيتا إسلاميا البعض منها مكتمل والبعض مهدم.
لا يفوتنا هنا أن نؤكد على أن استغلال المباني الأثرية مثل القلعة البيزنطية لم يكن الوجه الأوحد للتشويه، نضيف إليه، كذلك عمليات التهريب والمتاجرة باللقى الأثرية وما تم نقله إلى المتاحف خارج الوطن أو بيعه عبر مزادات لمقتنيي التحف الأثرية والأغنياء من هواة جمعها. خاصة التحف ذات القيمة وذات الأهمية التاريخية.
- باحثة في التراث الثقافي الجزائري وإطار بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية إدارة مواقع سطيف الأثرية.