محطات تاريخية تتحدى الزمن والمناخ الخراب العربي

سعيد بن عياد
18 أوث 2014

يستعيد التاريخ مكانته على الساحة كلما حلت مناسبة وطنية أو محلية من السجل الحافل لنضالات وكفاح الشعب الجزائري وبطولاته على مرّ الأجيال، من أجل الدفاع عن حريته وكرامته وثرواته واسترجاع السيادة الوطنية من المحتل الفرنسي. تعود هذه السنة الذكرى المزدوجة لهجومات الشمال القسنطيني بقيادة القائد الشهيد زيغود يوسف، والتي هزّت أركان الوجود الاستعماري في 20 أوت 1955 وأنهت الحصار المضروب على معاقل الثوار الأشاوس في جبال الأوراس الشامخة، وانعقاد مؤتمر وادي الصومام بمنطقة القبائل في 20 أوت 1956، والذي سطر الطريق بشكل واضح أمام قيادة ثورة أول نوفمبر محددا المعالم والأهداف بشكل لا مجال فيه لتردد أو مساومة، ومن ثمة تجاوز مستوى الخلافات التنظيمية إلى مستوى أكثر صلابة وانسجام. إنها، على غرار مختلف المواعيد التاريخية المشهودة طيلة مسار الثورة التحريرية الباسلة، التي لا يمكن حصرها، محطات مضيئة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري، يتم الرجوع إليها في كل مرة من أجل تكريم صانعيها ونقل بطولاتهم ومواقفهم الراقية في نكران الذات وتسخير الجهد والإرادة والعزيمة لخدمة المصلحة الوطنية العليا. لقد حمل أولئك الأفذاذ أرواحهم على أكفهم فداء للجزائر فاشتروا بدمائهم ومعاناتهم الحرية لفائدة كافة الشعب الجزائري، الذي يجب عليه جيلا بعد جيل أن يتذكّرهم ويحمل قيمهم النبيلة من خلال التزام الصدق في خدمة البلاد والتشبع بمبادئ العدالة والعمل والدفاع عن الوطن وثرواته. وليس من طريق أفضل لذلك من اعتماد كتابة وفية للتاريخ وتدريسه بأمانة للأجيال، مع الجرأة في الغوص في تفاصيله دون أي عقدة، قد تستغلها أوساط متشبعة بالمدرسة الاستعمارية من أحفاد أعداء الأمس وبقايا أذنابهم، من أجل توجيه ضربة عميقة للتاريخ الوطني، باعتباره الملاذ الآمن للتزود، كلما فرضت الظروف ذلك، بالطاقة لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، ولكون التاريخ الوطني صمام الأمان لروابط الانتماء والوحدة وتقاسم التطلعات المشروعة، والمتجددة في كل مرحلة في ظل الانسجام والتناغم. وكلّما واجهت شعوب عبر العالم مخاطر وتهديدات، عادت إلى الذاكرة للتزود بما يلزم من قيم وتضحيات تضمن رد الخطر وسحق من وراءه. واليوم تواجه بلادنا، خاصة من حولها، تحديات مصيرية تستلزم تحصين الجبهة الداخلية لتكون في كل ظرف صلبة وفاعلة، بالالتفاف حول الرصيد التاريخي والسمو به مرجعا مشتركا أكبر بكثير من كافة الطموحات الفردية والمصالح الفئوية وفي منأى عن أي خلافات أو صراعات. لقد أعطى جيل نوفمبر المثل الأعلى في تجسيد هذا الموقف، فبالرغم من خلافاتهم وصراعاتهم وضعوا المصلحة الوطنية هدفا استراتيجيا لا مجال للتفريط في جزء منه. مثل هذه المواقف ينبغي أن تحظى بالاهتمام من خلال استرجاع مآثر وبطولات أولئك الأبطال من الجنسين ومن كافة الأعمار، في وقت لم يستوفوا حقهم كما يجب، بل يمثلون ملاذا للاستعانة بإرادتهم وصلابتها في مواجهة ما يعترض المجتمع من مصاعب ومخاطر تلوح في الأفق. لقد وهبوا الأجيال وديعة الاستقلال والحرية والسيادة، ولا زالوا يحرسونها في عالم يهيمن عليه جبروت الأقوياء من دول لا تعطي فرصة للبلدان حديثة الاستقلال لتلتقط أنفاسها أمام عجلة العولمة العمياء. ولا يمكن الغوص في أعماق التاريخ من مجرد تدريسه سطحيا في المنظومة التربوية، إنما يطرح سؤال كبير حول عدد الزيارات والجولات المنظمة لفائدة الطلبة والتلاميذ إلى مواقع أمّهات المعارك مثل واد الصومام ومناطق الشمال القسنطيني التي تلقي بظلالها على الساحة اليوم، والقصبة التي تئن اليوم تحت وطأة قدم العمران، تحاصرها القمامة رافضة الانكسار أو الاستسلام لفقدان الذاكرة. إنها مسؤولية المجتمع أيضا، الذي لا يحق له الانسياق وراء إغراءات ومتاعب العولمة، التي ترمي إلى اختزال الإنسان في مجرد كونه رقما استهلاكيا مسلوب الإرادة، وتكريس قطع صلته بماضيه لتتمكّن القوى المهيمنة من الانفراد بمجتمعات كاملة، هي في مرحلة البناء، والاستحواذ على مواردها وقوت أجيالها. إن مواجهة عولمة جائرة، لا يمكن أن تكون إلا بالتسلح بتلك القوة الخارقة، التي تميّز بها الرجال البسطاء ولكن العظماء في الذاكرة، وهي القوة التي يقدّمها التاريخ الوطني، خاصة مرحلة الحركة الوطنية والثورة النوفمبرية، على طبق للأجيال، ويكفيهم فقط الاهتمام والتمعّن واستخلاص العبر. فكم منّا، صرف مقدار تكاليف سفرية إلى الخارج للتوجه إلى مواقع سطّر فيها آباؤنا وأجدادنا منذ الأزل، ملاحم تتحدى الزمن والمناخ وموجة الخراب العربي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024