الخامس جويلية، ليس مجرّد تاريخ أو ملحمة بطولية من ملاحم السّابقين واللاّحقين، فهو ذكرى وذاكرة مقدّسة لعيد الاستقلال والشباب، وها هو يعود ليحصي إنجازات وانتصارات الجزائر المنتصرة والمقتدرة، فبرجالها تصنع المعجزات، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا في تلقين المستعمر الفرنسي الغاشم دروس الشجاعة والوطنية والفداء، وصناعة البطولات دون انتظار جزاء ولا شكورا.
صدق حكيم إذ قال: “لا قيمة لإنسان بلا أعداء”، فمن الطبيعي أن يتكاثر البيادق والزبانية والفجّار والمأجورون والبؤساء، كلما شعروا بنصر جزائري تقرؤه اختراعات وألسن ومواقف جزائرية ثابتة لا تحول ولا تزول، خاصة عندما يتعلق الأمر بأمهات القضايا العادلة والمصيرية التي نقف معها “ظالمة أو مظلومة” إلى الأبد.
نعم، الخامس جويلية، هو “لهب مقدّس”، تاريخ مجيد وعيد سعيد، ومحطة مفصلية في تاريخ الجزائر الحرة السيدة المستقلة، لكنه أيضا قلم وقرطاس يجدّد كلما عاد الوعد والعهد لشهداء أبرار ما زالوا أحياء يرزقون، ينقلون وصيتهم من جيل الثورة إلى جيل الاستقلال، فكان حفظ الوديعة وصون الأمانة حتما مقضيا.
ليس غريبا ولا من عجائب الدنيا السبع، أن تصطفّ النطيحة والمتردية وما أكل السبع وبقايا “الجيفة”، في الطابور الخامس، من أجل التقويض أو محاولة ترويض قبلة الأحرار التي لا تخنع ولا تخضع ولا تركع إلا لخالق الكون والسموات الذي يقول للشيئ كن فيكون.
رسائل الخامس جويلية، في جزائر 2025، بعد 63 سنة من استرجاع الحرية والاستقلال الوطنيين، جليلة وسليلة لتلك البطولات والتضحيات الجسيمة التي صنعت الفارق والاستثناء بثورة تحريرية مظفرة يشهد بها ولها العدو قبل الصديق، وما زالت إلى اليوم بأسرارها ومعجزاتها تنقل النموذج الإنساني الراقي والصحيح من جيل إلى جيل ومن شعب إلى شعب ومن بلد إلى بلد، رغم تباعد المسافات وتعاقب العصور والأمكنة والأزمنة.
قد يكون الجزائري من القلائل، حتى لا نزايد على غيرنا، في بعث فصول وأصول “النيف والخسارة” بقواميسها التي تفسّر مصطلحات عجز فلاسفة الأمس واليوم، عن فهمها بشكلها الحقيقي الذي يفيد في الشكل والمضمون، وبالطول والعرض، أن الجزائر فوق كل اعتبار.. الجزائر أولا وأخيرا، الجزائر لا تبيع ولا تشتري، الجزائر لا تتراجع عن ثوابتها ومبادئها النوفمبرية، الجزائر لا تستسلم، تنتصر أو تستشهد.
هذه هي الجزائر المنتصرة، رجالها على العهد باقون، وبالشرف والكرامة يحيون ويموتون..أرقام معادلة صعبة ومشفّرة، أخلطت أوراق الحاسدين والمتآمرين والمتكالبين والمتربّصين و«العاملين عليها” والمتحاملين والمتطاولين، في أسواق التخابر والذلّ والعار والهوان والتنازل تحت الطاولة وفوقها، بأثمان بخسة، أو في سبيل “رضا” مؤقت لا يساوي قيد أنملة من ثقة الشعوب ودعمها.
إنّ ما تحقّق وما زال يتحقق، في ظرف قياسي وجيز، بشهادة الهيئات الدولية المختصة، وحتى “مخابر السوء” المتربّصة، هي رسالة أخرى، سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا وإعلاميا وثقافيا ورياضيا واجتماعيا وأمنيا وعسكريا، يزفّها الأمجاد لأولي الألباب، وبالمختصر المفيد: نوفمبر جلّ جلالك فينا..وإلى استقلالنا بالحرب قمنا.. فانتصرنا.
مثلما انهزم المستعمر المجرم بالأمس ورحل وهو يجرّ أذيال الهزيمة، وما زال يتجرّع لليوم مرارة الخذلان والخسران، معركة الأسياد مستمرّة ولن تتوقف في سيبل جزائر واقفة، صانعة للأحداث، متبوعة وليست تابعة أو خانعة، مؤثّرة، مسموعة الرأي والصوت ومرفوعة الرأس، وهذا ما نقل وما زال ينقل الرعب والفزع للكولونياليين الجدد ويهزّ “حنين الحركى”، ويعصف بدسائس “حلف الشيطان” الذي يحفر الحفر للشعوب والدول الشريفة والمقاومة، لكن كالعادة يسقط هو فيها إلى عمق سحيق.
ولأنّ ذكرى جويلية، لتخليد الاستقلال، وتمجيد الشباب، تتواصل سيرة الأحرار في مسيرة الانتصار، غير آبهة بقوى الشرّ وأيادي العبث اللاهثة عبر بقاع العالم لابتزاز وح المقاومة وإسكات النضال الثوري ووأد أهداف الاستقلال، لكن هيهات..فكما انتصر الأوّلون، سينتصر ورثتهم بالصبر والإيمان والإخلاص والوفاء والولاء والكبرياء، ومناهضة الفكر الاستيطاني وكسر شوكته المتهالكة في كل الظروف والأحوال، وحيثما رحل وارتحل.
ولأنّ الحفاظ على الاستقلال ومكانته ومكوّناته، مهمة تقتضي التكاتف والتحالف والوحدة والنزاهة والتضحية، تتقدم الجزائر الجديدة بقيادة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، إلى الأمام بخطى ثابتة واثقة، وبسرعة قصوى، على درب الإصلاحات والتغيير والتجديد، محقّقة فوارق وسوابق تاريخية على عدة جبهات، دوّخت تلك الأطراف الأجنبية المعادية التي لم تستيقظ بعد من استقلال الأمس، حتى باغتها استقلال اليوم واستكماله سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وتربويا وثقافيا، بأياد جزائرية يرعاها الله ويحميها الوطن، في ظل تقديس الهوية الوطنية وأركان الدولة النوفمبرية، تحت ظل مقدسات الدين الإسلامي والموروث الحضاري لأمّة أعطت وما زالت وستبقى تعطي دروسا في الأنفة والصمود ومواقف الشجعان والرجال الواقفون.
نعم، الدولة القويّة، قويّة بسيادتها وحرية قرارها واستقرارها، وكذلك باستقلالها الاقتصادي، وأمنها الغذائي والمائي واكتفائها الذاتي، وأيضا بجيشها القويّ المحترف، وبجاهزيته القتالية والميدانية دوما وأبدا، لمواجهة كلّ الرّهانات والتحديات والاحتمالات وصدّ المخاطر والتهديدات، وها هو “السليل”، يواصل بدوره تحقيق الإنجازات والنجاحات، الواحدة تلو الأخرى، ليرسّخ نموذجا فريدا، على المستوى العالمي، وباعتراف وشهادة هؤلاء وأولئك، ضمن عقيدة دفاعية مستنبطة من مقدّسات ثورة وبيان الفاتح نوفمبر 1954.
الجيش الوطني الشعبي، بكل فخر ونصر، مثال يحتذى به في علاقته العميقة وعروته الوثقى بشعبه، ومثال نزيه لتأدية المهام المؤسساتية والدستورية ليلا ونهارا، برّا وجوّا وبحرا، وهو فوق هذا وذاك، وجه آخر للإنسانية وصور التكافل والتضامن ومد يد العون والسند عند الحاجة والضرورة، وبسط أيادي الخير داخليا وخارجيا في اليسر والعسر للأشقاء والأصدقاء، والمساهمة في ضمان الأمن والاستقرار والسلام، إقليميا ودوليا، وتلك شيم الأقوياء والكبار.
الاستقلال الوطني، ينبغي أن يسنده أيضا ويرافقه في السراء والضراء، إعلام وطني نزيه ومحترف، واع، مؤثّر ومسؤول، لا يتأخر أبدا في الذود عن الوطن والمواطن، وقد تكون ذكرى الخامس جويلية 1962، مناسبة لنسج خيوط ميلاد جريدة “الشعب” العريقة، ذات 11 ديسمبر 1962، فنحو خمسة أشهر فقط، من الميلاد الجديد للجزائر المستقلة، إلى ازدياد “أمّ الجرائد”، كانت رسالة أخرى من الأصوات الحرّة: للجزائر أيضا صحافتها وإعلامها ونخبتها وأعلامها ونوابغها وإطاراتها، كلهم صف واحد من أجل إعادة البناء والتشييد رغم كيد الكائدين وحقد الحاقدين وغلّ المتزمّتين.
كغيرها من المؤسّسات الوطنية الخالدة والمخلّدة، تواصل “الشعب” في جزائر التحدّي والتصدّي، رفقة شعبها الأبيّ وجيشها الباسل، وشبابها الوفيّ المبدع والمبتكر، أداء المهمة النبيلة بكل شرف واعتزاز، على درب حفظ أمانة الأشراف، والبقاء بقبلة الثوار دائما في شاطئ الأمان، رغم المتغيرات والطوارئ والمخطّطات التي يحاول ما يسمى “النظام العالمي الجديد” فرضها فرضا على البعيد قبل القريب، وهو ما يستدعي منّا جميعا مناعة وحصانة تتقاطع في رؤاها ومقاصدها مع الهدف الأسمى الذي به تحقّق وعاد الاستقلال..فكلّ العرفان والامتنان للمجاهدين الأخيار، والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
وقل الجزائر واصْغ إن ذكر اسمها..
تجد الجبابر ساجدين وركّعا
تحيا الجزائر..